مقالات صحفية

بيننا وبينكم المحاكم

أحمد بن سليم الحراصي

من المعروف أن المحاكم ساحة للقاء المتخاصمين لعرض نزاعاتهم أمام القاضي لحل قضيتهم بالعدل وفقًا لما يقدمه الخصمان من شهود وأدلة وبينات واضحة لتحقق العدالة مبتغاها طالت مدتها أم قصرت؛ ذلك لأن المتخاصمين أصحاب قضية معقدة لا يستطيع حلها أحد سوى باللجوء إلى المحكمة ولكن حينما تكون المسألة بسيطة دون الحاجة إلى تحجيمها لتصبح قضية محكمة يأتي حينها دور المجتمع في التدخل لحلها.

قرأت بالأمس خطابًا منشورًا من والي سمائل يخص فيه رشداء الولاية ومشايخها للتدخل للحد من ظاهرة ازدياد الشكاوي بين أفراد المجتمع وهي مشكلات بسيطة لا تحتاج إلى محكمة بل تحتاج إلى دورهم كمشايخ ورشداء في حل ما قد ينشأ من خلافات بين المجتمع سواءً بالتراضي أو بقبول الصلح.

أجد في هذا الخطاب شعورًا بالمسؤولية من قبل سعادة الوالي تجاه دوره في الحفاظ على تماسك مجتمع الولاية وعدم نفورهم من بعضهم ففي اتحادهم قوة وفي تفرقتهم ضعف وشتات، كما أنه نبه أيضًا للشيوخ والرشداء أهمية دورهم في حل المشكلات الاجتماعية بين المجتمع وهو دورٌ قديم الأزل للشيخ والرشيد ولكن للأسف أن بعضهم تناسى دوره كونه شيخا أو رشيدا وترك الخيط والمخيط لتدخل المحاكم في كل شيء حتى لو كان بسيطًا.

وهذا ما يفسر حينما استوقفني على الطريق ذات يوم رجلٌ مسن وقد بدت في ملامحه علامات التعب والاكتئاب والقهر؛ فاسوداد وجهه وجفاف شفتيه ونحافة بدنه دلت على أنه واقعٌ في وقعٍ عظيم.
– سألني بعد السلام بنبرة حزينة وضائعة: (وين لجنة التوفيق والمصالحة بالرستاق معكم؟)
– لم يكن عليَّ حينها سوى أن أجيبه وأرشده إلى وجهته، لكن مما أثار استغرابي هو لماذا لجنة التوفيق والمصالحة هذه؟ أين دور المشايخ والرشداء وأين دور المجتمع الذي يعيش فيه هذا الرجل؟ لماذا لم يتدخلوا لفك هذا النزاع القائم بينه وبين ذاك الذي لا أعرف من يكون؟ لماذا نحتاج إلى توفيق ومصالحة وعندنا أهل حل وعقد ومشايخ ورشداء؟ باختصار لأن تفكيرنا هو (كل واحد عليه من نفسه ولا يتدخل في شيء ما يخصه، والمحاكم كثيرة يروحوا يحلوا مشاكلهم هناك).

وإن مما يؤسف أيضًا أن بعض الناس يتهجمون على أهل الصلح وينهرونهم بكلام غير سمت (أنت أيش دخلك، ياخي هذه مشكلتي أنا رجاءً ابتعد ولا تتدخل)، يتدخل لأنه باختصار يعنيه أنت وليست مشكلتك، لا يريدك أن تدخل في دوامة لا تعرف أين مخرجها، يريد أن ينقذك من صراعك مع نفسك وتفكيرك الغارق ليلًا خوفًا من بطش المحاكم بك، أذكر في هذا المقام أيضًا قصة قديمة وقعت بين رجل وثلاثة خصوم، تصور أن تكون لوحدك وضدك ثلاثة خصوم، كيف ستنجو من فعلتك هذه؟ ليس مهمًا أن نذكر أسباب نزاعاتهم لكن ما أذكره أنه تدخل الشيخ في حلها وجميع أهل الصلاح من المجتمع، استطاعوا حينها أن يقنعوا أحدهم بالتنازل وبقي خصمان عنيدان لم يستطيعوا أن يجعلوهم يتنازلون حتى بالصلح أو بالتراضي إلى أن تدخل شيخ القبيلة وأقنعهم بالصلح نظير أموال معينة يقدمها هذا الرجل لهما فوافقا على هذا الصلح من الشيخ، لكن مما (زاد الطين بلة) أن الرجل هذا كان متعنتًا صعب المِراس فلم يقبل بهذا الصلح ووصف الشيخ بكلمات غير لائقة، الأمر الذي جعل من الشيخ يتنحى جانبًا ويترك الأمر لمصيره في المحاكم.

مشكلتنا في هذا الزمن أن بعض الناس قلوبهم غير متصافية ونفتقد كثيرًا إلى دور أهل الحل والصلح ودور الشيوخ والرشداء في التدخل لحل نزاعات أفراد المجتمع وعدم تركهم ليلجأوا إلى المحاكم إلا إن استحالة إقناعهم فقد تكون المحكمة حلًا بعدها، كما لا يجب علينا أن نتلفظ بسوء الكلام لأهل الصلح والشيخ؛ لأنهم جاءوا لغاية الصلح والصلح خير إن قبل به المتخاصمون أم لم يقبل، يبقى أنهم فعلوا ما يقع على عاتقهم وسعوا مجاهدين كي يوقفوا هذا النزاع سواء بالصلح أو بالتراضي وانتهى دورهم، فحبذا لو أننا نتمسك بهذه العادات الأصيلة لنحافظ عليها ونفهمها ونعيها شكلًا ومضمونًا.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights