الوعي الكارثة
سهام سالم
فى المقهى المقابل لـ”وقت الشاي” في الخوض، في الشارع المقابل لجامعة السلطان قابوس، أجلس في طاولة جانبية. لم أشعر بالراحة عند جلوسي أمام مقعد شاغر، وقد أثارت رائحة القهوة النافذة في نفسي الغثيان، فهذه أول مرة أبتعد فيها عن ذلك الكوب الورقي المليئ بشاي الكرك.
اليوم قررت أن أغير نمطية أيامي وأحتسي القهوة بدلا من الشاي. لا أحب المفاضلة بين الشاي والقهوة، لأن الشاي دائما يفوز، لهذا وحتى وأنا أرتاد هذا المقهى فقد سألت إن كانوا يقدمون شاي “كرك” من الحجم الكبير، وقد تلقيت نظرة ذهول قصيرة لبرهة، ثم ردا ساخرا مغلفا بالكثير من اللباقة، قائلا لي أنهم لا يبيعون إلا القهوة المستوردة.
في النهاية رضخت للأمر واخترت نوعا لا أعرف نطق اسمه من القهوة، رغم أنني صُدمت بتكلفة الكوب الواحد، إنه يساوي شراء ستة أكواب من الشاي، ولكنني أقنعت نفسي بأنها ليست إلا تكلفة التغيير الذي سعيت لأجله هذا اليوم.
وفي أثناء انتظاري للقهوة، جاء شاب نحيل بدا لي أنه في العشرين من عمره، وجلس في المقعد المقابل لطاولتي دون أدنى كلمة، تفحصت المكان والتفتُّ يمنة ويسرة ثم حدقت فيه بغرابة، ولكنه لم يتحرك، وعندما وصل كوب قهوتي نظر إليه نظرة قصيرة ثم قال: عندما كنت رجلا عجوزا فقدت ابني الذي في مثل عمرك، كان يحب قهوة “أمريكانو” مثلك تماما.
في البداية دهشت من قدرته على معرفة نوع القهوة من شكلها ثم أدركت أنه رجل مجنون حقا وضحكت.
أضاف بعد أن رأى ذهولي: كان يحبها باردة ولكنه كان يطلبها ساخنة وينتظرها حتى تبرد ثم يشربها، وفي أثناء ذلك كان يجبر نفسه على استذكار كتاب كامل كل يوم.
وبابتسامة لم أستطع حبسها بادرت بسؤاله: كم كان عمره؟
فصمت قليلا محدقا في القهوة ثم قال: كان أكبر مني بشهر واحد فقط، أمي تقول أنه أكبر مني بثلاثة أشهر ولكنني متأكد من حساباتي فأنا لا أخطئ في الأرقام.
ولما زادت غرابة ما يقول سألت: يبدو أنها امراة كبيرة في السن.
– من؟
زوجتك.
– لا لا لم تكن كذلك، فقد توفيت قبل أن تحظى بأبناء.
عندها تأكد لي أمر جنونه فقلت بأسى: يا للمسكينة!
لم أكن قد مسست كوب القهوة، فأخذه ورشف منه رشفة ثم أعاده أمامي وقال: هي لم تتزوج أصلا، لأنني مُتّ قبل زواجنا بشهرين.
امتقع وجهي، اضطربت وسقطت محفظة نقودي من الطاولة، هل أتحدث لروح رجل ميت؟ تلفت يمنة ويسرة لأرى الناس من حولي ولكن لا أحد في المقهى غيرنا والنادل، تلعثمت وابتسم ابتسامة عريضة وقال: لا فائدة من وجودك هنا. ولا مغزى لوجودي أمامك في هذا المقهى ولا طعم حتى لكوب قهوتك. نحن مخلوقات ورقية، يكتبنا الآن أحدٌ ما، لهذا وُجدنا. حدقت فيه بحدة وأنا أتذوق كوب القهوة، شرقت بالقهوة حين لم أجد لها طمعا، غضبت وصرخت للنادل ولكنه لم يستجب، كان يحدق فينا ويبتسم.
وحين التفتُّ لم أجد الشاب أمامي، اِحمرّ وجهي حنقا ونظرت للأعلى وأنا أتأكد من طعم القهوة للمرة الأخيرة، وبدون إرادة مني ابتسمت، كما وُجدت من العدم دون معنى؛ حدقت بيأس، ورأيت سن القلم. “شعرت بأنني مجرد حلم، وأن أحدا ما في هذا الوجود يسعى لتحقيقي”*، أريد وعيا يسد لي ألمي، ويسعى ل… إلهي.. لا أرى شيئـ ــااا.
“الوعي لعنة مُزمنة، كارثة مهولة، إنه منفانا الحقيقي. إذا كان الجهل وطن فالوعي منفى.” – إميل سيوران
*سعدية مفرح