سلسلة “نحن أبناء ولاية أدم” الشيخ الدكتور حمير بن ناصر المحروقي.. من بيت العَلَمْ إلى العالم
أدم – محمود الخصيبي
تفخر ولاية أدم بشكل خاص وسلطنة عمان بشكل عام بأبنائها الذين ارتقوا في سلالم المجد من العلم والعمل والعطاء الاجتماعي والإنساني ليصبحوا نموذجاً للأجيال، تحقيقاً للرسالة الإنسانية والعمانية للعالم أجمع.
عبر ما يقارب نصف قرن من الزمان، مضى ضيفنا العزيز الشيخ الدكتور حمير بن ناصر بن سعيد المحروقي في رحلته التي بدأها من بيت العَلَمْ حيث وُلد ونشأ إلى أن وصل بنتاجه العلمي والبحثي إلى العالمية، نستعرض معه في هذا اللقاء قصة تسمية البيت بهذا الاسم، وأثر التربية العلمية والاجتماعية التي تلقاها على يد والده المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ ناصر بن سعيد بن خميس المحروقي على تكوينه العلمي والمعرفي، ملقين الضوء على اهتمامه في مجال إدارة المعرفة، وأنشطته العلمية على المستويين المحلي والعالمي.
بيت العَلَمْ، راسخ في ذاكرة ولاية أدم في مجال التعليم، كيف كانت البداية وما سبب التسمية؟
انطلاقا من الحرص الذي أولته الحكومة في سلطنة عمان نحو نشر التعليم في بدايات النهضة الحديثة بقيادة المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، فقد سعت الوزارة برئاسة معالي الشيخ الوليد بن زاهر الهنائي -رحمه الله- إلى إيجاد مبنى لإقامة أول مدرسة نظامية في ولاية أدم، ووقع الاختيار على منزلنا -وكان مقر إقامة العائلة آنذاك في بيت الرحبة، البيت الكبير الملاصق لبرج الرحبة- ليحتضن أول مدرسة باسم مدرسة أسامة بن زيد بعد أن كانت الدراسة في الخيام، ومنذ ذلك الوقت أطلق على المنزل بيت العلم وذلك نسبة إلى علم سلطنة عمان الذي كان يتوسط الساحة المفتوحة مرفوعاً خفاقًا أمام إدارة المدرسة، ومازال المنزل يتشرف بحمل ذات التسمية إلى يومنا هذا، وكانت إحتفالات البلاد بالعيد الوطني تقام داخل صرح بيت العلم حيت يتم إقامة المسرح في الجهة الشرقية من المبنى الذي كان يتصف بتعدد مرافقه وسعة مساحته وموقعه في قلب الولاية، بالإضافة إلى البئر التي كانت تستخدم لأغراض الشرب والاستخدامات الأخرى، وقد درس في هذه المدرسة العديد من أبناء ولاية أدم الذين يحتفظون بذكريات كثيرة من الاجتهاد والتحصيل وبناء الشخصية العلمية.
وكان والدي رحمة الله عليه وثيق الصلة بالإدارة والمعلمين و الكوادر الإدارية في الوزارة بالإضافة إلى علاقته الشخصية الوطيدة بالوزراء المتتابعين المعنيين بمجال التعليم في ذلك الوقت، وفي نهاية السبعينات انتقلت المدرسة إلى مبنى آخر في الولاية يملكه المغفور له بإذن الله الوالد محمد بن شيخان الوائلي.
هل كان للتنشئة دور رئيسي في مجال اهتمامكم بالمعرفة وخصوصا أن والدكم المغفور له بإذن الله تعالى كان معروف عنه العناية بالعلم والتعليم؟
للأسرة في كل مجال دور كبير في توجيه الأبناء نحو القيم السوية، وبفضل الله تعالى نشأت في أسرة تعتني بالتعليم حيث كان والدي رحمة الله عليه يؤمن بأن العلم والمعرفة هي من تصنع شخصية الإنسان، وكان يستضيف بشكل دائم مدراء المدارس والمعلمين في المنزل للحديث عن دور المدرسة وكنت أحضر هذه الجلسات، كما كنت منذ الطفولة أشاهد والدي عندما يقرأ وكنت أحضر معه المحاضرات التي تقام في الولاية إلى جانب المحاضرات التي تقام في مسقط وذلك في الإجازة الصيفية، علاوةً على المنهجية التي يتبعها والدي رحمة الله عليه في متابعة أبنائه سواء على المستوى المدرسي أو على المستوى الجامعي في شراكة فاعلة مع المؤسسات التعليمية، والتي كان لها كبير الأثر في تعزيز الدافعية نحو التعلم واكتساب المستوى الأعلى من المعارف بحيث أصبحت جزء أصيل من سلوك التعلم لدينا، حيث كان إخوتي الكبار يتلقون التعليم في الجامعات خارج سلطنة عمان -قبل افتتاح جامعة السلطان قابوس” وكان والدي يقوم بزيارتهم للإطلاع على أحوالهم وتحصيلهم إدراكًا منه بأهمية المتابعة في هذا الجانب، وكان يقوم في هذه الزيارات بزيارة المعلمين الذين سبق لهم العمل في عمان، الأمر الذي رسخ قيمة المعلم والتعليم في الذهن، ولقد نهلت من والدي رحمة الله عليه المعرفة المجتمعية حيث كنت أحضر جلسات التوفيق والمصالحة التي تقام بمنزلنا، وكنت أتولى التدوين في بعض منها، إلى جانب حضوري معه في بعض لقاءاته بالولاة والمسؤولين.
كيف كانت الرحلة للحصول على مؤهل الدكتوراه؟
منذ أن كنت على مقاعد الدراسة وضع لي والدي رحمة الله عليه هذا الهدف ووجهني نحو تحقيقه؛ إيماناً منه بأن كل درجة علمية هي فرصة لاكتساب مزيد من العلم والمعرفة، وعلى الرغم إنني حصلت على بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام ١٩٩٥ بعد الانتهاء من الثانوية، إلا أن رؤية والدي كانت أعم وأشمل، حيث إصطحبنيإلى جامعة السلطان قابوس مع مقابلة أمين عام الجامعة الذي توجه لوالدي بالقول -مازحاً- بأن ابنك لا يحتاج إلى دعم لدخول الجامعة وأن معدله يتيح له الإلتحاقبالتخصص المناسب، وكان الهدف من الالتحاق بالجامعة والتخرج منها بتقدير عالي يسمح العمل بها في وظيفة أكاديمية تكون بداية الطريق نحو الدراسات العليا، وهو ما تم ولله الحمد.
المعرفة والتطور وجهان لعملة واحدة ألا وهي النمو الاقتصادي والرفاة المجتمعي.. نتعرف من خلالكم الشيخ الدكتور حمير المحروقي على المقصود بالمعرفة وكيف يمكن إدارتها بالشكل الصحيح الذي يحقق المكاسب المتوقعة للمؤسسات؟
المعرفة هي مزيج من المعلومات والمهارات ذات الصلة بمجال معين أو باختصاصات وظيفة معينة.
اما إدارة المعرفة فهي عبارة عن مجموعة من الأنشطة المستمرة والإجراءات ذات الصلة بتحديد المعرفة المتوفرة و المطلوبة سواءً في شكلها الضمني أو الصريح وما يتبع ذلك من عمليات جمعها وتنظيمها وبثها واستخدامها في أداء المهام المختلفة و تحقيق الأهداف المنشودة.
ما أهم مسارات التوجه العالمي في عملية إدارة المعرفة؟
تسعى كثير من الدول إلى تعظيم المزايا التنافسية لمؤسساتها في خضم التسابق العالمي نحو تحقيق المكاسب في المجالات الاقتصادية والتنموية وغيرها.
وقد أظهرت الكثير من الدراسات في الإنتاج الفكري العربي والأجنبي أهمية المعرفة ودورها في بناء القدرات التنافسية للمؤسسات؛ إذ تعتبر المعرفة من أهم الأصول في المؤسسة، ذلك أنها الأداة التي يتم من خلالها تنفيذ الاختصاصات وتحقيق الأهداف الموكلة إلى المؤسسات بكفاءة عالية.
ما أبرز المصطلحات العلمية ذات العلاقة بمجال إدارة المعرفة؟
يرتبط بهذا المجال مجموعة من المصطلحات التي تتناول عملية إدارة المعرفة في جوانبها المختلفة، ومن أهمها مصطلح توليد المعرفة والذي يقصد به توليد معرفة جديدة عبر طرائق مختلفة مثل التعلم الذاتي والتفاعل مع الزملاء، إلى جانب مصطلح تقاسم المعرفة ويقصد به تبادل المعرفة مع الأشخاص المخولين بالوصول إليها باستخدام طرائق رسمية أو شخصية، علاوة على مصطلح نقل المعرفة ومن خلاله يتم تمكين الأشخاص المخولين بالولوج إلى المعرفة الصريحة (الموثقة).
أشرتم في حديثكم السابق إلى المعرفة الضمنية والمعرفة الصريحة، فما المقصود بهما؟
المعرفة الضمنية هي المعلومات والمهارات التي يمتلكها الشخص ويمارس من خلالها نشاطاته المختلفة دون أن تكون هذه المعلومات والمهارات مسجلة بأي شكل من أشكال التسجيل، أما المعرفة الصريحة فهي تلك المعلومات التي تتوفر بشكل موثق ومسجل.
هل بدأ نشاط إدارة المعرفة في القطاع العام أم في القطاع الخاص؟
معظم المنهجيات ذات العلاقة بالإدارة مثل الادارة الكلية للجودة تم البدء بها في مؤسسات القطاع الخاص وبعد ذلك تحولت إلى القطاع العام، وفيما يتعلق بمجال إدارة المعرفة فقد بدأ استخدامه بشكل فاعل في مؤسسات القطاع الخاص حيث أشار كل من Taylor & Wright في دراستهم المنشورة في العام 2004 إلى أن إدارة المعرفة هي مبادرة من القطاع الخاص.
كيف يمكن للمؤسسات أن تتبنى عمليات إدارة المعرفة؟
على كل مؤسسة أن تهيئ البنية التحتية المناسبة لتطبيق عمليات إدارة المعرفة ومن أبرزها الثقافة المؤسسية ومن مكوناتها التعاون والثقة والتعلم ودعم الإدارة، علاوةً على تهيئة الهيكل التنظيمي وما يرتبط به من تعزيز اللامركزية، إلى جانب تطوير البنية التحتية لتقنية المعلومات.
كما أنه من المهم جداً قياس مدى استعداد الموظفين لتطبيق عمليات إدارة المعرفة والمشاركة في أنشطتها المختلفة.
الشيخ الدكتور حمير المحروقي، لو تحدثنا عن اهتمامك بمجال إدارة المعرفة و أنشطتك المهنية والعلمية في هذا الجانب؟
بدأ اهتمامي بمجال نقل المعرفة منذ المراحل الدراسية الأولى، وكنت أمارسها من خلال المشاركة بالمعرفة مع الزملاء عبر الأنشطة الصفية واللاصفية، ومن ثم تطور لدي الاهتمام في مرحلة الدراسة الجامعية وخصوصا مع القدرة على الوصول إلى المصادر المعلوماتية المختلفة التي توفرها الجامعة، وقمت بإعداد أطروحتي الجامعية لمرحلة الدكتوراه في مجال قياس جاهزية المؤسسات الحكومية العمانية لإدارة المعرفة مع دراسة خاصة في هذا المجال، وحصلت الأطروحة بفضل الله على جائزة أفضل رسالة في الدراسات العليا على مستوى كلية الآداب والعلوم الاجتماعية في جامعة السلطان قابوس للعام الأكاديمي 2018- 2019 كما قمت بنشر عدد من البحوث والمقالات في المجلات العربية والأجنبية في هذا المجال، كما حصلت أحد الأنشطة العلمية على تقدير عالمي من مؤتمر دولي باليابان، كما تلقيت دعوة مؤخراً للمشاركة في مؤتمر عالمي بالولايات المتحدة الأمريكية لتقديم محاضرة في هذا الجانب، الأمر الذي يعكس الاهتمام العالمي بمجال إدارة المعرفة.
ما النصيحة التي تقدمها للباحثين في المراحل الدراسية المختلفة والموظفين والمؤسسات لتعزيز الاستفادة من مجال إدارة المعرفة؟
في ضوء ما أشرنا إليه من أهمية المعرفة وإدارتها، فإن الطريق الاسرع والأنجعلتحقيق الاهداف الشخصية والمؤسسية يأتي من خلال الادارة الفاعلة للمعرفة، فعلا المستوى الشخصي أنصح الباحثين بتحديد المعارف التي يمتلكونها والمعارف التي يسعون إلى اكتسابها مع تحديد مصادر هذه المعارف ومن ثم توجيه طاقاتهم نحو الاستفادة منها لأداء مهامهم المختلفة، وهنا أشير إلى المبادرة المجتمعية بإنشاء وتطوير المكتبة العامة في ولاية أدم والتي نتشرف بأن كنا داعمين لها في فترة التأسيس، حيث تعد هذه المؤسسات الثقافية داعمة لبرامج نقل المعرفة
أما على المستوى المؤسسي فمن الملائم قياس مدى الجاهزية لتطبيق عمليات إدارة المعرفة بالإضافة إلى قياس مستوى النضج في تطبيق عمليات إدارة المعرفة وذلك بالنسبة للمؤسسات التي تتبنى هذا المسار، علاوةً على إصدار الاستراتيجيات وما يرتبط بها من رؤية ومحددات في عمليات تطبيق إدارة المعرفة، كما أنه من الملائم تنفيذ برامج توعوية وتدريبية على المستوى المؤسسي في هذا الجانب.
و انتهى تجوالنا في بستان المعرفة بعد أن قطفنا من ثمار العلم والعطاء بصحبة الشيخ الدكتور حمير بن ناصر المحروقي متمنين له التوفيق في مسيرته العلمية والمهنية و المجتمعية، مع التقدير لأنشطته ومساهماته المجتمعية الواسعة في الأنشطة المختلفة بولاية أدم وتواصله الفاعل مع كافة أبناء الولاية انطلاقاً من إيمانه بالمسؤولية الاجتماعية وامتداداً لإرث الآباء والأجداد، ونحث عبر هذا اللقاء كافة الأجيال للاعتناء بالعلم والمعرفة ونقلها والتشارك بها نحو مجتمع معرفي واعد.