دَعُوْا اللهَ وخَلْقَهُ…فقد آذَيْتُمُوْه..
عبدالحميد بن حميد الجامعي
منذُ الأزلِ يتمسكُ البشرُ في أفعالهم وردود أفعالهم بالله على سبيلين اثنين، سبيلٍ فطري، يَطلبُ الرجوعَ إلى المبدأ، والمنطلق، مؤكدين بذلك الإيمان الجمعي بالله، غَيْرَ المفتعل لجنس الإنسان، وسبيلٍ تزييني تعليلي، يعمل على إضفاء الصبغةِ الشرعية على أعمال البشر، ومواقفهم الذاتية والجمعية، وهذا الأخير قد يكون محل رضى من الله، أو محل سَخَط منه، وأذى..
“والله أمرنا بها” هي “اليافطة” أو اللافتة التي يرفعها مؤذو الله، والمفترون عليه، والإيذاء هنا ليس هو إيذاءً للخالق حِسِّيًا، تعالى الله، بل هو من سبيل ” لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم”، فالإيذاء هناك كما النَّيلِ هنا أمر مَجازي، ومنه ” إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله..” آية ٥٧ الأحزاب ، ومداره هو الأثر الحقيقي على الحياة في إنسانها، فالفعل ما تماهى مع الغاية من وجود الإنسان في الأرض، وهو الخلافة بالإصلاح والإعمار والتطوير، وما مؤداه ذلك من أداء الحقوق والواجبات، والاطمئنانِ الجمعي والفردي، والاستقرارِ الأممي، فهو ما يرضاه الله، وما يدعو إليه، وكلُّ ما عداه فهو أذية لله، بإيذاء هذه الحياة، وجَرْحِها.
لا يتوقف إيذاءُ الله بهذا المعنى على شكلٍ بعينه، فعندما تقوم المذاهب في الدين الواحد (الإسلام مثلا)، على إلغاء لغة الحوار، واعتمارِ لغة الإقصاء والسلاح والتكفير بينها، وما يتولد من ذلك من إفساد للأرض، وعِثار لتطور الحضارة والمدنية، فهو إيذاء لله…. وعندما لا تجد الأديانُ أو الرسالات الدينية (السماوية) بينها جسرَ تواصلٍ إلا الحروبَ الدينية، والتربصَ بعضِها ببعض، متى ضعفت سالمت، ومتى تقوت استأنفت وحاربت، مع ما يخلف ذلك من دمار للأمم، وتراجع للإنسانية، فهو إيذاءٌ لله… وعندما يُتعاطى مع الإسلام أنه دِينٌ قوميٌ، فيُزَوَّى كلُّ ما هو أعجمي، بدءً بالخلافة، وانتهاء بالإمامة في الصلاة، ويُقَدَّمُ كلُّ ما هو عربي، وتُترجمُ هيمنتُه (أي الإسلام) على وجوب إرغام أتباع الأديان الأخرى على اعتناقه بالسلاح، فهو إيذاء لله…. وعندما يُتباهى بخدمة الحجاج وسقايتهم ويُتفننُ، ويُلتفتُ عن قتل الإنسان وسفكِ دمه بالطائرات والصواريخ، والتسبب في تجويعه وترهيبه وغرقه في المحيطات، وتشتيته عن أسرته وقريته، وتهجيره لدول شتى، شيخا وصغيرا، رجلا وامرأة، وكأنه ليس شيئا، وتَزيينِ المرجعيات الدينية كلَّ ذلك من أعلى منابر المساجد، أو منابر الإعلام، وينحو نحوهم المحللون والإعلاميون، فهو إيذاء لله….. وعندما “يتخذُ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين” (ويُعادون المؤمنين بسببٍ مذهبي أو خلافٍ فكري سياسي بحربهم وحصارهم والتأليب عليهم وتهمتهم وتسخير الإعلام وذبابه وتسليط كل شر عليهم، والفجور فيهم)، وقد جاء النهي عن ذلك في كتاب الله، لما فيه من طلب الخلخلة والفتنة في الجسد الواحد، فيُتَمَسكُ أن كل ذلك في سبيل الله، لِيُقَزَّمَ دينُ الإنسانية الرحب العظيم (الإسلام) في مدرسة أو مذهب أو منهج متقوقع، ضيق لا يرى أبعد من شعس نعليه، عندما يحدث ذلك فهو إيذاءٌ لله…. وعندما يَقْتُلُ الإنسانُ إنسانا على الهُوية، ويذبحه وهو يكبر، فهو إيذاء لله…. وعندما يُضَيَّقُ حلالُ الله، ولا تُساوِي الأحكامُ الموجبة الأربعة (الواجب والمسنون والمباح والمكروه) الحكمَ الواحدَ المانعَ (الحرام).. واللهُ وسَّعَ في كتابه ولَم يضيق.. (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)، (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)، (ما جعل عليكم في الدين من حرج).. ليصبح المرء في عظيم حرج في يومه، كأنه يمشي على حقل ألغام لا عفو فيه، ولا عفوية، ولا طبيعة اجتماعية، لا في علاقته بين أفراد مجتمعه، رجالا ونساء، ولا في علاقته مع غيره من الناس من غير المسلمين، درجةَ المرض النفسي، حتى يشك في قلبه ونواياه وإيمانه، فهو إيذاء لله…. وعندما يصل الضيق إلى حبس المرأة، وطمرها حتى عن الدراسة والمدارسة والحوار، وتطلق يد الرجل للعبث بدعوى القوامة، فإنْ قَتَلَ فَلِشَرَفٍ، أما هو فلا خلل للشرف من قبله، في مقابلة مشوهة ذات وجهين قبيحين، فهو إيذاءٌ لله…. وعندما يُرادُ أن تُنسَفَ سنةُ رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم وموروثُه رأسًا لتنعدم القدوة، بدعوى أنها من بشر وخلال بشر (الرواية)، والقرآن من الله وإلى الله، فهو الأول في الكتب ولا عقب له، فيخرج لنا العقلانيون بمرجعية السنن الكونية، والقرآنيون بمرجعية القرآن فقط… فهو إيذاءٌ لله… وعندما يُهمَلُ كتابُ الله ويغدو صوتا يُنَغَّم في الصلاة والتلاوة دون تدبر، ويكون هو أخيرا في الأحكام بعد السنة وما دونها، فـ” لا خير في قرآن بلا سنة ولا خير في سنة بغير فهم سلفنا الصالح”، ليعجز أولاء عن مدافعة أولئك، وتزدهرَ بسببهم ظواهر الملحدين، واللاأدريين، واللادينيين، فذلك إيذاء لله….وعندما يُطلبُ تغييرُ الفطر، ويُزاوجُ بين أفراد الجنس الواحد (المثلية)، ويُطلب الولد لهم بالتحايل، أو يُشرعُ الإباحةُ في العلاقات المحرمة بين أفراد الجنسين، لِتَعْقُمَ البشريةُ في الأول، وتضيعَ في الثاني، بحرمان الطفل نسبَه الشرعي، وأمَّه وأباه الطبيعيين، وتتلقفه المشاكل النفسية، وبَيْداءُ التيه والغواية، أو لتدمير السكينة بين الزوجين والاطمئنان، حفظا للمرأة من الظلم “والمرمطة”، بداعي الحرية الفردية، بينما المصلحة الجمعية والإنسانية “معقوقة بحر”، فهو إيذاء لله…ولا تنتهي قائمة إيذاء الله بذلك، بل تطول، ويمكن تعريف ما يدخل فيها أنه كل أمر في معادلته يكون الإنسان (بصورته الجمعية) هامشيا، ويكون هو وحياته واستقراره فيها الضحية، فهو إيذاء لله، وجوابه جميعه ما جاء في قوله سبحانه وتوجيهه” قل إن الله لا يأمر بالفحشاء”…
من ذلك فكل ما تعيشه اليوم البشرية من حروب ودمار ليست من الله في شيء -إلا من ظُلِمَ-، وكلها إيذاء له سبحانه، كونَها إيذاءً للبشر، وتدميرا لمقومات الحياة، فلتكفَّ إذاً أبواق الفتن، وعُبَّادُ الطاغوت، من محللين عثث، عن كذبهم على الإنسان، وكذبهم على الشعوب، وكذبهم على الدول، فليكفوا عن الزج باسم الله في أفعالهم المشينة، فليس سقاية الحاج، وعمارة البيت الحرام، ولا الكعبة المشرفة، ولا الكرة الأرضية بأناسها كلهم تساوي قتلَ نفسٍ ظلما، عبر حروب مفتعلة، تغطي الأوجهَ القبيحة، والأطماعَ الحرامَ في قلوب أصحابها، وفِي الكتاب الكريم من الآيات الظاهرات والحاملات لتلكم المعاني الإنسانية السامية الكثيرُ، وعلى المحللين “بتوع الريال” أن يكونوا أحرارا لا “سَبَالات”، و”ستيريو تايبات”، فقد لعن التاريخُ أشياعَهم، وكَبَّهم على مناخرهم في مكب النفايات، وعلى الإنسان العدل مهما كان متجهه ودينه وبلده اعتمارُ فطرته، ومقاومةُ أمثال هؤلاء المؤذين للخالق، والمؤذين لخلقه، بأنواع الإيذاء، من الكلمة والتصريح والتعليل (الأعوج) يبثونه، إلى الرصاصة والطائرة والصاروخ يطلقونه، فلم تعد الكرة الأرضية تتحمل مزيدا من الخراب والفساد، وللناس حقُ العيش بسلام واطمئنان، وكل قول لا يخدم ذلك، ولا يَصُبُّ فيه، فهو قول رجعي ردٌّ، لا يقره الله، ولا الفطر السوية، مهما تلحف به من قدسية دينية أو بشرية، وأي تأويل لكتاب الله وآياته لا يَلتزمُ إعمار الأرض، ونشر السلام والإسلام بصورته الموجبة، والتي فيها تطورٌ للإنسان واطمئنانٌ له، فهو تأويل مؤذ، غير مصيب، وعلى الإنسان فردا وجماعات الحرصُ على عدم إيذاء الله بالقول أو الفعل، فإن لم يكن قدرةٌ على مناكفة الإيذاء باليد، فدونه اللسان والقلم، وإن تعذر ذلك، وفَارَ تنورُ الطغيان، فلا أقل من الإنكار بالقلب والاعتزال، حتى لا يكون مطيةً للظالم، وطُعما يُتَصَّيدُ به الناس..تَوَرُعَاً عن إيذاء الله، بإيذاء عباده…والله المعين…
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الخميس ١٠ رمضان ١٤٤٠ هـ
١٦ مايو ٢٠١٩ م