غزة، من شبح الفقر والبطالة إلى التنمية المستدامة

د معاذ فرماوي
farmawidba@gmail.com
نداء واستغاثة لإنشاء مؤسسة تمويل أصغر عربية.
بدايةً، أودّ التوضيح أن هذه المقالة ليست اعترافاً بالعدوان الغاشم على غزة، ولكنها محاولة لمواجهة الواقع الأليم الذى تعيشه، ووضع نظرة مستقبلية متفائلة لها بعد تلاشي العدون الغاشم عنها، وتوضيحٌ لدَور الدول العربية، خاصة الخليجية منها في إعادة بناء غزة اقتصادياً، وتحقيق التنمية المستدامة لها.
لا شك أن غزة ستحتاج في البداية وبمجرد انتهاء الحرب لمِنَح غير مُستردّة لإعادة تعميرها وإعادة بناء الحدّ الأدنى من البنية التحتية، وبعد ذلك ستحتاج وبشكل فوريّ ومستمرّ لبرامج التمويل الأصغر بهدف تحقيق التنمية المستدامة، وإعادة إعمارها اقتصادياً، وتكوين رجال أعمال صغار من خلال تمويلات مستردة بطريقة ميسّرة تناسب الوضع الصعب اقتصادياً، والذي ستعيشه بعد انتهاء الحرب الشرسة، وسيكون ذلك من خلال تقديم خدمات مالية كالائتمان، والأوعية الإدخارية، والتحويلات المالية لسكان غزة النشيطين اقتصادياً، ولكنهم غير قادرين على الحصول على هذه الخدمات من المؤسسات المالية الرسمية نظراً لسوء أوضاعهم المالية، وعدم قدرتهم على توفير الضمانات التي تطلبها هذه المؤسسات، وبذلك سيساهم التمويل الأصغر في القضاء على المعوّق الرئيسيّ الذى سيواجه سكان غزة بعد انتهاء الحرب وهو عدم القدرة على الحصول على خدمات مالية من خلال النُّظُم المصرفية الرسمية، على أن يستخدم التمويل المقدم لهم فى تمويل ودعم مشاريع صغيرة تساعدهم فى تحسين أوضاعهم الإقتصادية.
ولذا، يجب أن تسارع الدول العربية خاصة الخليجية إلى إنشاء مؤسسات تمويل أصغر من الآن، وبمساهمات ضخمة تناسب الاحتياجات الضخمة التي سيحتاجها سكان غزة بعد انتهاء الحرب، بحيث يبدأ نشاط هذه المؤسسات فور انتهائها مباشرةً، وبدون أيّ فترات انتظار تُعرّض أهلها للحاجة والعوز، وهو ما يتنافى مع طبيعة العزة والإباء المترسخة فيهم.
ويمكن إنشاء هذه المؤسسات على مستوى كل دولة عربية، أو بتعاون مشترك بينهم لإنشاء مؤسسة واحدة وهو الخيار الأفضل لتحقيق التوجيه الموحد للتمويل، وتلافي تكراره على مستوى المشروع الواحد، وفي حال وجود أكثر من مؤسسة فيجب التنسيق بينهم فى هذا الشأن، ونوصي بالبدء من الآن فى هذا الأمر، خاصةً وأن هذه المؤسسات ستحتاج لموارد بشرية ذات خبرة في نشاط التمويل الأصغر، إضافة للأصول التكنولوجية والرقمية، وهو ما يحتاج لوقت ليس بالقصير لإنشائها، كما أن عامل الوقت سيكون مهماً ومؤثراً جداً في المساهمة في إعادة إعمار غزة اقتصادياً من خلال برامج التمويل الأصغر، والتي يمكن أن تقدم خدمات مالية متنوعة لأهلنا في غزة، كالقروض والتوفير والتأمين والتحويلات المالية الصغيرة، إضافة لخدمة التأجير التمويلي الأصغر وغيرها من الخدمات المالية المختلفة. ومما لا شك فيه أن هناك مؤسسات تمويل أصغر عربية رائدة يمكن الاستعانة بخبرتها في هذا المجال.
ومما تجدر الإشارة إليه: إجماع الاقتصاديين وخبراء التنمية الاجتماعية على أهمية دور نظام التمويل الأصغر وفعاليته فى محاربة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة، وفي نفس الوقت يرفع الحرج عن المستفيدين، حيث يتم تزويدهم باحتياجات مشاريعهم الصغيرة في شكل تمويل مُستردّ، وليس صدقات أو معونات، كما أنه يُعتبر الوسيلة الدائمة لتنمية هذه المشاريع بدلاً من العاطفة الجارفة التي تحدث غالباً في بداية مثل هذه الظروف ثم تتلاشى تدريجياً، حيث يوفر نظام التمويل الأصغر هذه الخدمات مقابل شروط ائتمان ميسرة وضمانات بسيطة تتلائم مع قدرات أهل غزة الاقتصادية والاجتماعية حيث يتم تقديم المساعدات المالية فى شكل استثمار في مشروعات صغيرة وفي تعليم الأفراد الاعتماد على أنفسهم لإنشاء وإدارة هذه المشروعات.
لقد أحدثت صناعة تمويل المشروعات الصغيرة تحولاً كبيراً فى العالم سواء في الدول الفقيرة أو الغنية، ففي الدول الفقيرة والنامية تم دعم ومساعدة ملايين الأشخاص وهو ما نتمنى أن يحدث في غزة، وفي الدول الغنية أصبحت هذه الصناعة مهداً للأفكار الريادية وهو ما نتمنى أن يحدث في الدول التى ستقوم بإنشاء مؤسسات التمويل الأصغر لدعم غزة، ولكن يجب الإشارة إلى أن التمويل الأصغر كأداة تطوير إقتصادي لن يكفي وحده للقضاء على مشاكل أهلنا في غزة، حيث يُعتبر التمويل الأصغر أداة ذات فعالية كبيرة في محاربة الفقر، ولكن يجب استخدامها بالتزامن مع أدوات تطويرية أخرى، حيث لا يمكن اعتبار كل أهل غزة بعد انتهاء الحرب مستهدَفين مناسبين لمؤسسات التمويل الأصغر، فالمُعدم والجائع الذي ليس لديه دخل أو وسيلة للسداد يحتاج لوسائل أخرى نموذجية للدعم قبل أن يستفيد بشكل فعّال من التمويل الأصغر، ففي حالات كثيرة قد تكون المنح الصغيرة وتحسين البنية التحتية للمجتمع والخدمات الصحية والتعليم وبرامج التوظيف والتدريب والخدمات المالية الأخرى من أكثر الأدوات المناسبة للتخفيف من حدة الفقر، وهو ما ستقوم به مؤسسات وجمعيات أخرى معنية بذلك، ولذلك يجب التأكيد على أن المستهدَفين من خدمات التمويل الأصغر يجب أن يكون لديهم فُرصاً اقتصادية، ومهارات أعمال، بحيث يتم استخدام القروض الممنوحة لهم في دعم مشاريع وأغراض إنتاجية وليس في أغراض استهلاكية، وأمّا أفقر الفقراء فهم ليسو من العملاء المستهدَفين لمؤسسات التمويل الأصغر، لأن ذلك لا ينطبق عليهم. ويمكن وبشكل مختصَر توضيح أهمية قطاع التمويل الأصغر لأهل غزة في كونه يساهم فى محاربة البطالة من خلال خَلْق وظائف جديدة ومستدامة، وتتعدى فائدته تطوير المشروع الذي تم تمويله إلى زيادة وتنوع دَخْل الأُسَر في غزة، وهو ما ينعكس على المستوى الاقتصادي لها، ويؤثر إيجابياً على مستوى المعيشة بشكلٍ عامّ، وارتفاع مُعدّل الأمن الغذائي مع تحقيق التطور المستدام للاقتصاد القومي، مما يساهم وبشكل فعّال في تخفيض معدلات البطالة والخروج من أزمات الفقر، كما يتضح الأثر الإيجابي للتمويل الأصغر بشكل خاص على المشاريع الصغيرة، كزيادة الأرباح الشهرية كلما زادت مدة الاشتراك في برامج التمويل الأصغر، وخلق مشروعات وأنشطة اقتصادية جديدة.
وتتميز مؤسسات التمويل الأصغر بقدرتها الكبيرة على خلق وظائف أكثر من مؤسسات التمويل الكبير نظراً لأن متوسط تكلفة رأس المال المستخدم لخلق وظيفة أقل بكثير منه في حالة المشروعات المتوسطة والكبيرة، كما يمكن لهذه المؤسسات زيادة الناتج المحلي وتحقيق التكامل الصناعي مع مؤسسات التمويل الكبير وتنمية الصادرات، فصناعة التمويل الأصغر ستساهم بشكل كبير في إخراج غزة من شبح الفقر وأزمة البطالة وخلق تحقيق التنمية المستدامة.
وتقوم مؤسسات التمويل الأصغر بإقراض الفقراء قروضاً صغيرة للبدء في مشروعات أغلبها في القطاع المنزلي بعيداً عن القطاع الرسمي للاقتصاد، وعادةً بدون ضمانات واضحة، ورغم أن ذلك قد يجعل احتمالات السداد غير واضحة، إلا أن الواقع أثبت أن ذلك أفضل من النظرية التقليدية للتنمية والتي كانت تعتمد على المنح المالية أو الصدقات والتي من أهم سلبياتها أنها تؤدي للاعتمادية.
وأخيراً: أحذّر من خطورة إنشاء مؤسسات تمويل أصغر بغزة على أساس فكر ديني أو طائفي أو سياسي، مما يعني خدمة شريحة معينة من أهل غزة دون غيرهم، فهذا كفيل بفشلها سريعاً، وصعوبة تحقيق الاستدامة المطلوبة، إضافة لمشاكل التصنيف الدولي والمجتمعي والسياسي للمؤسسة.
وأكرر ندائي واستغاثتي بسرعة البدء في إنشاء مؤسسات تمويل أصغر عربية لخدمة أهل غزة فور سكون الحرب.