الحنين .. (قصة قصيرة)
مريم شملان
إنه وقت الضحى، “حمامة” تجمع الحطب وتعود بأغنامها، على عجلة من أمرها، لإعداد الطعام لاقتراب وقت الظهيرة، لتملأ القِربة بالمياه من البئر لِتسقي أغنامها، وترى من بعيد القليل من الرجال بينهم نساء يتوشحن السواد، يقتربون من البئر، مُتعبين من مَشقة الطريق، والقرية خاوية إلا من بعض كبار السن من الرجال، وبعض الأطفال والنساء اللواتي يعشنْ وحيدات أرامل، أو لهُن أزواج مُهاجرون، فالرجال قد رَحلوا إلى ديار بعيدة لكسب الرزق لِيسدوا ما يحتاجونهُ من مؤونة طوال المواسم التي يبتعدون فيها عن أحبابهم، و”حمامة” هنا في الديار المقفرة بالصحراء الشاسعة، خالية إلا من أشجار السَمْر، تُناجيها بالحَدوُ والغناء نَهاراً،
وتُسمعها البكاء ليلاً، وتحلم بالخروج من الديار والهُروب والابتعاد من هذه القرية القاحلة التي لا يوجد فيها إلا كُثبان الرمال والرياح الموسمية التي تزورهم وتملأ ذلك الفضاء عَويلاً وغضباً بالغُبار وبالتُراب، وشُجر السَمْر والرُمث والإراك والذي أصبح خَضَاره يختفي ويكتسي بياضٍ بِغبارها، وبعضها قد تمايل وبعضه أسقطته وحَملته إلى مَسَافات بعيدة، وجذوعٍ مطمورة أصبَحتْ كأنها رؤرس الشياطين، خاوية تَصفر فيها الرياح وأغصان كبيرة وصغيرة مُبعثرة استقرت عليها الرِمال والكثبان، وبحياتها هذه تمضي بين الأيام المشمسة الحارقة، أو البرد القارص، مُستمرة، و”حمامة” في تلك الدوامة كالاُخُريات بين الخُضُوع لواقع أو التشبث بأحلام القصص وحِكايات تُروى من المهاجرين بعد عودتهم، أو ممن يتحدثون عن الغربة والعالم المُختلف، وضَعت ما كان على رأسها من حَطب قد جمعتهُ لإعداد الطعام، في وقت كانت تقوم برعي مواشيها وتحتطب من أشجار السمّر في ذلك المكان الفسيح، والذي ينمو قريباً من منزلها والمنازل المجاورة المتناثرة في ذلك المكان، واتجهت إلى البئر حاملةً “قربة الماء” لِتجلبْ الماء ولتُسقي أغنامها القليلة، وتقترب من المُسافرين الذين يغتسلون ويشربون ويرتاحون تحت الشجر من حرارة الشمس.
وبدأت “حمامة” بالتحيةِ والسلام عليهم، فيما هي تُنزل”الدلو” لتجذب الماء، كانت قد بدأت الحديث مع النسوة القادمات من بعيد، والمُتجهات مع ذويهنّ وعائلاتهن عائدات إلى الشمال، بعد أن قضين موسم “المقيض” بين المياه الباردة والظل الرحيم من هَجير الشمس، والرياح الموسمية الحارة، لقضاء موسم “الصيف”، وأن يكونوا قريبين من الماء والظل في البساتين، وقت حصاد المحاصيل وما يجود به الموسم من خيرات وثمار الليمون والتمور والفاكهة وبعض مما يُغرس في البساتين والمزارع، على حافة السواقي وأحواض المياه، لنهاية موسم صيف الباطنة العريضة بمساحتها التي تلامس الجبال الطويلة بِسهلهاَ المُمتد إلى ما لا نهاية، وبحرها الذي يأتي بخيراته، يحملون ما يستطيعون من تمور، وليمون مُجفّْف، وسعفْ جريد النخيل وما يحتاجوه في حياتهم اليومية، مُتجهين إلى الشمال، حاملين مَتاعاً
وهدايا من أصدقائهم وأحبابهم عائدين إلى ديارهم بعد أن انقضت أيام الحصاد، وليالي الصيف بأكمله.
وتستمر في إنزال “الدلو” وجَذب المياه لِتسقي أغنامها، وملء “القربة” من الماء بقدر حاجتها، وعندما انتهت وأخذت كفايتها من المياه، دنت من النسوة لتدعوهن إلى وجبة الغداء والراحة في منزلها، وشرب القهوةِ والترحيب بهن والقيام بواجب الضيافة، وما كان منهن والذين كانوا برفقتهن إلا القبول وقضاء وقت الراحة في منزلها الصغير، وبعد ذلك الكرم ووجبة الغداء أصبحت أكثر قُرباً من الضيوف الذين كسبت ودهم ومحبتهم، وبعد وجبة العشاء واستقبال الجيران “للسهر” وتبادل الأخبار والحديث المُسلّي، أخبرتهم بأنها تود أن تذهب برفقتهم حتى نهاية الطريق من رحلتهم، لزيارة أقارب لها، واتفقت معهم “أربع قطع مصوغة من الفضة” لأجرة الرحلة، حتى تصل إلى نهاية الطريق وقد تم الاتفاق من اللحظة، وتنطلق القافلة وقت السَحر قبل الفجر، حَملتْ ما استطاعت أن تحمله، ومضت رحلتها بالسير نحو الطريق المنشود تاركةً كل شيء لِتمضي فقط وتبتعد لتجد نفسها في مكان مُختلف عما كانت ترغب فيه، لم تستطع العودة منه، وعاجزة عن الاستمرار في ذلك المكان والبقاء فيه.
بقيت “حمامة” بعيدة عن الوطن، لا عودة
لها ولا راحلة تُعيدها، فهي في شوق لسماع صفير الرياح، التي رافقتها بالحدو والغناء، وساعات الضحك وليالي البكاء، فالشوق له معزوفة
تدندن بها الذكريات في الليالي، مُغلقةً عليها أبوابها، حالكة السواد.
أما بئر البلدة فهو باقٍ ليضمن بقاء من حولة
أحياء، والوارد إليه من الغرباء والوجوه العابرة.
1-“قربةً” لحفظ الماء من جلد المواشي.
2-“المقيض” موسم الصيف.