الثلاثاء: 7 مايو 2024م - العدد رقم 2131
القصص والروايات

أُمنيّة .. قصة قصيرة

بلقيس البوسعيدية

“اسكت، صاروخ ياخذك.”
هكذا اعتادت أمي أن تقول لي حينما أصرخ مناديًا عليها بملء رئتي، وحينما أدخل في نوبة بكاء حادة لأسباب تافهة لا تستحق البكاء، وحينما أسكب كوب العصير على ملابسي دون قصدٍ مني، أو حينما أبعثر الأشياء هنا وهناك بشكل فوضوي، وحتى عندما أغني بأعلى صوتي تقاطعني أمي بتلك العبارة الحادة التي تخرج من بين شفتيها مثل طلقة رصاص.

ما زلت أذكر تلك المرة عندما صرخت بها في وجهي؛ ولأني كنت طفلًا مسكونًا بالفضول؛ خرجت مسرعًا إلى الفناء، وفي ظل شجرة الياسمين ألقيت بجسدي، ثم أسندت ظهري إلى صلابة جذعها وجلست منتظراً بلهفة عارمة عودة أبي؛ لأسأله ذلك السؤال الذي ظل يدق في رأسي مثل المطرقة، ولكنه النعاس كان بطل الموقف؛ غلبني فأخذني في غفوة طويلة. ومثل العصافير النائمة على أذرع الشجرة بقيت نائمًا هناك ولم أستيقظ إلا على صوت أبي وهو ينادي باسمي: “أحمد، أحمد.”
وبسرعة البرق ارتميت بين ذراعيه؛ فراح يمسد شعري تارة ويغمرني بالقبلات الحانية تارة أخرى، ثم دسَّ يده في جيب قميصه وأخرج لي لوح شوكولاتة بحجم الأصبع. قضمته بنهم؛ فنسيت ما بقيت منتظراً لأجله.

على طاولة العشاء بدت أمي شخص آخر، وكأنها هبطت من عالم قوس قزح، ففي حضرة أبي تصير أمي امرأة طيبة وهادئة، يشع الحب من عينيها السوداوين، تتحرك برقة الفراشات وابتسامة عذبة لا تفارق وجهها، وما يجعلني أكثر غرابة هو أنها تكون على استعداد تام لتلبية أي طلب أطلبه منها.

لم أستطع كبح جماح فضولي أكثر؛ لذا سألت أبي بصوت جهور: “بابا ما هو الصاروخ؟!”
قهقه أبي ضاحكا؛ فبزغ نابه الذهبي واهتزت بطنه الكبيرة بطريقة أضحكتني، قال وهو ينظر مباشرة في عيني: “يا لك من فتى فضولي، ما شأنك وشأن الصواريخ يا بني؟!.”
التفتنا إلى أمي، فبدت في تلك اللحظة وكأنها فوجئت بلطمة لم تتوقعها، ومن ارتعاشة شفتيها أدرك أبي أن ثمة أمرًا هائلاً حدث في غيابه؛ فشفاه أمي لا ترتعش بتلك الطريقة المبالغ فيها إلا حينما تكون واقعة في مأزق ما.

فكر أبي برهة قصيرة قبل أن يقول:” أخبرني يا عزيزي، ما قصة الصاروخ هذه؟!.”
زميت شفتي وجعلت أخبره بنبرة مكسورة كيف تعاملني أمي في حين غيابه، وكيف تصرخ علي بتلك الجملة التي عجزت عن أستيعاب معناها.
حدق أبي إلى أمي، فأشار إليها برأسه أن تسبقه إلى الغرفة، ازدرد آخر لقمة في فمه، ثم مضى يتبعها هو الآخر بهدوء، وما أن أغلق الباب من خلفه حتى دوت صرخة عارمة؛ تصلبت روحي على إثرها، تبعها صوت ارتطام شيء ثقيل بالأرض، ثم صوت تهشم وتبعثر شظايا زجاج، تبع ذلك مباشرة صوت ارتطام قوي لجسدٍ صلبٍ بالباب.

أكملت تناول طعامي ورحت أتأمل صورنا المتناثرة على الجدار بتعاسة شديدة، ففي تلك اللحظة تحديدا؛ كرهت نفسي وكرهت اندفاع أبي المبالغ فيه، وأشفقت على أمي لأنها أكلت ضربًا مبرحًا ثمن تذمري وفضولي.

في صباح اليوم التالي بدت أمي هادئة جدًا، جامدة ومتصلبة كالدمى الخشبية. تناول أبي كوب قهوته وغادر دون أن ينبس ببنت شفة، وأنا بدوري تناولت إفطاري بصمت وأخذت حقيبتي وخرجت حاثاً الخطى نحو الحافلة دون أن أجرؤ على الالتفات خلفي. وبنظرة سريعة وأنا أحشر نفسي بين أكتاف الطلبة؛ قاصدًا إلى مؤخرة الحافلة حيث اعتدت وصديقي عمر الجلوس دائما؛ لمحت أمي واقفة هناك على عتبة الباب، تلوح لي ببرود شديد، فبدت في هيئتها الرثة تلك أشبه برجل العظام الواقف أبدًا في مختبر العلوم.

“يوم ميلاد سعيد أحمد.” قالها عمر وهو يدس يده في جيبه.”خذ، أنه لك، هدية ميلادك.”
تلألأت عيناي، جذبتني ألوانه الزاهية، وبفضول رجني حتى النخاع؛ أخذته منه ورحت أقلبه بين راحة يدي. قلت له مدهوشا: “ما أجمله، شكراً لك!”
لمح علامات التعجب في وجهي، فقال: “هل عرفت ما هو؟.”

رميت ببصري إلى راحت يدي، ثم تطلعت إلى عمر صامتا؛ فوشت عيني بأن لا إجابة شافية في فمي.
لاحت على ثغره ابتسامة مشرقة وهو يقول: “إنه صاروخ، ابتعته خصيصا، لأهديه لك. تقول أمي أنه يمكن للصواريخ أن تحلق في الفضاء عاليا، عبر السموات المفتوحة.”
ارتفع حاجباي دهشة وأنا أحدث نفسي متعجبا: “ماذا؟!، صاروخ؟! هل هذا الشيء الصغير… هل هذا هو الصاروخ حقا.”

من خلال النافذة وعلى لمعان البحر، وصخب النوارس البعيدة؛ سرحت بخيالاتي للبعيد، وفجأة شعرت بأنامل فضولية تشد ذراع قميصي، التفت فواجهتني ابتسامة عريضة من عمر سائلاً بفضول: “إذن ما هي أمنيتك يا فتى الميلاد؟”
أحكمت قبضة أصابعي على الصاروخ، وسحبت نفساً طويلا قبل أن أغمض عيناني. ثم صرخت بأمنيتي بداخلي: “أن يأخذني الصاروخ بعيداً، بعيدًا جدا.”

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights