الأربعاء: 8 مايو 2024م - العدد رقم 2132
مقالات صحفية

التسريح من العمل، هل من مستمع؟

عصام بن راشد المغيزوي

يحتل العمل منزلة مؤثرة في الحياة، فبالعمل تؤمن أسباب الحياة الكريمة دون طلب يد المساعدة من الآخرين، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يؤمن استقراره الاجتماعي والنفسي.

لا يمكن اختزال أهمية العمل في تأثيره على المستوى الفردي فقط، فآثار العمل تتعدى في نفوذها المستوى الفردي لتصل للمستوى المجتمعي، فما تلك المجتمعات المتطورة إلا نتاج أفراد عاملين بجد واجتهاد، وما تلك الأمم الراكدة إلا حصيلة سنوات من التخاذل والاتكالية من أفرادها. فتكوين رؤية واضحة للمستقبل ورسم تصور عن طموحات الأمم يستند في أساسه على الأيدي العاملة، فلا يمكن أن نحلم بمستقبل مشرق دون أن يتم توظيف قدرات وإمكانيات الشباب في ميادين العمل المختلفة؛ حيث تعمل بيئة العمل على صقل وتنمية تلك المهارات، كما أنها توظف تلك القدرات في سبيل رقي ونهضة أمتهم.

للعمل آثار إيجابية جمة في حياة الأفراد، فهو يمنح الفرد تصورًا واضحًا عن حياته المستقبلية، وتحدياته الحالية، والسبل التي يمكن من خلالها أن يواجه من خلالها هذه الصعوبات، كما تساعد البيئة العملية الشخص على تطوير شخصيته واكتشاف ذاته؛ وذلك عن طريق تعرضه للعديد من المواقف المختلفة، وإجباره على اتخاذ مجموعة من القرارات، يضاف إلى ذلك كله فعالية العمل على خلق بيئة اجتماعية للفرد، تساعده على تنمية مهارات التواصل الاجتماعي، ويتأتى ذلك عن طريق تطوير البيئة التفاعلية بين الفرد والآخرين في بيئة العمل، كما تعمل بيئة العمل على حماية الفرد من الوقوع في فخ الفقر؛ وذلك عن طريق توفير دخل مادي ثابت للفرد. وللعمل آثار إيجابية على الفرد فهو أيضًا يمتلك تأثيرًا هائلاً على المجتمعات؛ فهو يعمل على زيادة دخل الدولة، وتقليل نسبة البطالة والفقر، ومن جهة أخرى فهو يحد من ظاهرتي التشرد والتسول، ويقلل من انتشار بعض الجرائم كالسرقة وشرب الكحول؛ حيث تكون هذه الجرائم عادة من نتاج الفراغ، وعدم استغلال الإنسان لوقته بشكل مناسب، إضافة إلى كل ما ذكر، فإن العمل يزيد من التكافل والتكاتف الاجتماعي، ويوفر العديد من الخدمات للمجتمع كالخدمات التعليمية، والصحية، وغيرها من الخدمات المتباينة.

ينظر ديننا الحنيف إلى العمل على أنه شرف، وعز، وفخر، وضرورة حتمية لامتداد العمران، وبناء الأمم؛ حيث حثت تشريعاته العظيمة على أهمية العمل، واستنكرت قوانينه البطالة والتقاعس، فالإسلام يدرك أن المجتمع القوي هو ذلك المجتمع الذي يقوى بأفراده ويضعف بضعفهم؛ لذلك نجده في أكثر من موضع يحث أتباعه على السعي في ميادين العمل المختلفة، ولأهمية العمل ومكانته في ديننا الإسلامي، نجد في القرآن الكريم العديد من الآيات القرآنية التي تحث على أهمية العمل، يقول المولى عزوجل: “هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ” (الملك:15).

إن المتتبع لحياة الأنبياء والرسل الكرام، سيدرك أنهم عملوا في مهن مختلفة، فسيدنا نوح عليه السلام عمل في النجارة، ونبي الله موسى عليه السلام كان يعمل في رعي الأغنام، وهذا ما أوضحته آيتان من سورة طه، يقول المولى عز وجل مخاطبًا نبيه الكريم: ” وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ۝ ” (طه:17-18) كما يجب أن نتذكر أن نبي الله إدريس كان يعمل في الخياطة، ومحمد  كان يعمل في رعي الأغنام، فنبينا العظيم  الذي لو سأل ربه عز وجل أن يمنحه قصرًا من ذهب، أو أن يسخِّر له من يقضي له حوائجه لكان له ما تمنى، ولكنه صلوات الله عليه وسلم أبى إلا يصطف في صفوف العاملين المثابرين؛ ليقدم لنا درسًا رائعًا في أهمية العمل.

في الآونة الأخيرة طفت على أرض سلطنتنا الحبية قضية التسريح من العمل، ولقد نالت هذه القضية اهتمامًا مجتمعيًا واسعًا، ولكنها للأسف الشديد لم تنل الزخم المأمول منها في وسط الدوائر الحكومية. ونشطت هذه الظاهرة في القطاع الخاص خاصة، الأمر الذي دفع لجنة الشباب والموارد الشبابية بمجلس الشورى لاستضافة عدد من المعنيين في غرفة تجارة وصناعة عمان؛ وذلك لمناقشة مجموعة من المحاور المرتبطة بدراسة قامت اللجنة بإعدادها تحت عنوان” ظاهرة تسريح القوى العاملة الوطنية بالقطاع الخاص.. تحديات وحلول”(1)، ومن أبرز النتائج التي خلص منها: أن معظم حالات التسريح تتم بسبب ارتفاع التكاليف التشغيلية للمشاريع، وارتفاع الرسوم والضرائب، ورفض بعض العمال تغيير طبيعة عملهم وفقًا لما يستجد من أعمال الشركة، إضافة إلى كل ما سبق من الأسباب، فإن انتهاء الشركات من بعض المشاريع، أو إحالة المشاريع إلى شركات أو جهات أخرى يعد من الأسباب البارزة التي تؤدي إلى التسريح من العمل. كما أن استغلال بعض شركات القطاع الخاص لبعض الثغرات الموجودة في قانون العمل العماني من العوامل التي تؤدي إلى زيادة نسبة المسرحين عن العمل. إن غياب الجهات الرقابية لشبكة الأمان الوظيفي، وانعدام التغطية التأمينية للمسرحين عن العمل أمر أسهم في تنامي هذه الظاهرة في سلطنتنا الحبيبة.

لإيجاد حلول لهذه المعضلة التي تواجه مجتمعنا لا بد من تضافر جهود المجتمع مع جهود الحكومة؛ لما لهذه المشكلة من آثار مدمرة على الأفراد المسرحين خاصة، وعلى المجتمع بشكل عام، ومن الخطوات التي ينبغي لحكومتنا الرشيدة أن تعيد النظر فيها مرة أخرى هي نسبة التعمين في مؤسسات القطاع الخاص، فلا يمكن أن تكون هذه النسبة ثابتة مع التغييرات الكبيرة التي يشهدها الاقتصاد، كما لا بد من وجود جهة تمنح الحق لاتخاذ الإجراءات الانضباطية المناسبة في حق كل المؤسسات التي لا تلتزم في نسبة التعمين التي تم إقرارها مسبقًا، كما أن إعادة النظر في بعض أحكام قانون العمل والتي تهدف لتوضيح الحقوق والواجبات بين جهة العمل والعامل أمر ضروري، كون بعض قوانين العمل تحتمل التأويل من قبل صاحب جهة العمل، وخاصة التشريعات الخاصة بمدة العمل وأجر العامل؛ الأمر الذي يجعله يستغل للأسف هذه البنود في تسريح العاملين، أو الضغط عليهم لقبول بعض التنازلات التعسفية، ومن هنا ينبغي النظر في بعض السياسات، كسياسة الحد الأدنى للأجور، فمبلغ 325 ريالا عمانيا لا يفي بحاجة الفرد العامل مع التغييرات الاقتصادية الهائلة التي تشهدها المنطقة. كما أن وجود تعديلات في قانون العمل أمر سيحقق التوازن والعدالة بين العاملين في جهة العمل، مما سيؤدي إلى رغبة الأفراد للإقبال على العمل بحماس واجتهاد، الأمر الذي سيدفع بعجلة التطور إلى الأمام.

إن تفعيل دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لترفد المخرجات الجامعية؛ وذلك عن طريق تخفيض الرسوم والضرائب على تلك المؤسسات قد يكون أحد الحلول السحرية لحل هذه المشكلة، كما أن وجود سياسات تضمن دعم برامج تدريب وتأهيل الكوادر العمانية من قبل المؤسسات الحكومية وجهات القطاع الخاص، سيضمن تطوير الموارد الحكومية. وأخيرًا، لابد من منح الشركات العمانية الفرصة للقيام بمختلف المشاريع؛ نظرًا لوجود نسبة تعمين مرتفعة في العادة في هذه الشركات.

لقد نال العمل منزلة رفيعة في حياة الإنسان، فبه تتحقق أحلامه، ومن خلاله يرسم مستقبله. فلا يمكن الحديث عن مستقبل مشرق أو نهضة محتملة لأمة ما لم تتم معالجة قضية التسريح من العمل، كما أن وضع تشريعات مناسبة، وتنفيذ بعض المبادرات أمر سيقلل من انتشار هذه الآفة في مجتمعنا. دمتم ودامت عمان بلدا لا ينهض إلا بسواعد أبنائه.

____________________
(1) موقع مجلس الشورى العماني.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights