امرأة تحلم .. قصة قصيرة
بلقيس البوسعيدية
في صباح كل يوم جديد، ومع كل رشفة مُرّة من فنجان قهوتها السمراء، ينبثق من عمق أعماقها صوتٌ غايةٌ في العذوبة، يحفّزها على التقدم خطوةً نحو وجهةٍ تريدها، يذكّرها بالوقت الضائع من عُمرها، بالخطوات المهمَلة على رصيف أحلامها، يقول هامساً في أذنيها: “تستطيعين، أنتِ جديرة هذه المرّة بتحقيق تلك الغاية التي اهتزت بين أضلاعكِ منذ سنين.
آن الأوان لأن تُطلِقي العَنان لجناحيكِ لتحلّقي عالياً في الهواء الطلق، مثلما تُحلّق العصافير”.
يملؤها الصوت شجاعة، ويستهويها كل شيء في الوجود، تغريها زرقة السماء؛ فتروح تصفق بجناحيها وتحلق مبتهجة صاعدة نحو السماء، ترفرف بخفة متلذذة بنشوة انتصارها على وحش الخوف الذي لم تجرؤ يوماً على مواجهته حتى وفي أبسط خيالاتها. تترك كل شيء في الأرض وتواصل التحليق نحو وجهةٍ تعرفها تماماً، فلطالما سكنت أحلامها وتربّعت عرش خيالاتها.
في غمرة اندفاعها الأول تُلقِ نظرةً خاطفةً على العالم من تحتها؛ فتبدو لها الأشياء صغيرة ومسالمة جداً: ضواحي القرية المتوهجة، طُرق ترابية تحت صفوف عالية من أشجار النخيل، زوارق البحر البيضاء والزرقاء وأرصفة الميناء، بيوت صغيرة بيضاء قبالة الساحل الرملي، أناسٌ أغنياء وأناسٌ فقراء جداً، مختلفون في الوجهات، ومتشابهون في الأحلام، والموت يضحك متخفّياً بين أوراق أشجار البيذام الصفراء. ترى نفسها العظيمة في هذا الوجود، من يملك جناحين وديعين لا مثيل لهما، وجسدٌ معدوم الظلّ، وعقلٌ راجحٌ طليق، يجوب ربوع السماء بلا قلق من أن يلد أفكاراً مشوهة أو قاصرة. وحدها فقط من يملأ الكون بضحكاته النابعة من قلب مغامر ذاق مرّ الحياة ولم يغرق فيها قطّ. يخالجها شعور غريب، فلأول مرة تحسّ بالتحرر، لا شيء يقيد معصميها، لا خوف ولا قلق من سقوط مروّع، لا شيء أمامها سوى مساحات بيضاء ممتدة إلى ما لا نهاية، ووجهات تبتسم وتلوّح لها بعذوبة تزيد من تدفق الحماس في أوردتها. تغمض عينيها لوهلة فيعود ذلك الصوت العذب هامساً:
“ما أجملكِ وأنتِ هنا وسط السماء الزرقاء، تسيرين برقّة غيمة، وتسبحين مثل نجمة مزهوّة بتوهجهكِ الفاتن.”
شيئاً فشيئاً تسحبها المسافات فتجد نفسها قد ابتعدت أكثر وأكثر، وكأنها تودّ الهرب أو الاختباء في حضن غيمة ما؛ لتصلّي وتدعو من صميم قلبها أن تبقى أسيرة السماء وزرقتها ما شاء الله أن تفعل. في نشوة تحليقها ترجُمها نظرات حادة من بعيد، تذكّرها بجذورها الضاربة بالأرض، تذكّرها بأنها ليست إلا أنثى ناقصة عقل وحكمة، تحلّق بجناحين قصيرين، وفي سماء محدودة ولمسافات قصيرة وإن بدت لها لوهلة طويلة جداً وبعيدة. تكسرها تلك الأصوات الذكورية التي تهتف ساخرة من حماسها وجنون خيالاتها الجامحة، تصفعها الحقيقة؛ فترتطم بسقف الخيبة، وتهتز دواخلها كغصن مكسور في غابة نائية، ترى أحلام عمرها تتساقط تِباعاً سابقة إياها إلى ثقب ضيق في الأرض. تدرك بعد وجع السقوط كم أنها ضعيفة ومحطمة، بلا حيلة ولا قوة ولا أية قيمة، مهددة بالسقوط كلما قفزت إلى عقلها فكرة التحليق، أنها ضحية سطوة ذكورية ومعتقدات لا تلد إلا أفكار مشوهة قاصرة. يكسرها حزنها فتروح تضمد جراحها بعد ألف صرخة وتحاول جاهدة أن تخلق لنفسها فُرصاً جديدة لتجربة ذلك الشعور من جديد، شعور أن تكون حرة بجناحين خفيفين من نور، وأن تكون صديقة غيمة ما، وأن تتقمص دور نجمة ساطعة في ليل شديد السواد، شعور وجدت فيه ضرباً من الإثارة ونوعاً من السعادة التي لا يعرفها إلا من ذاق مهانة العيش بين أربعة جدران صمّاء. تتجاهل فداحة الواقع فتعود تفرد جناحيها نافدة الصبر وتحلّق مبتعدة وبلهفة عارمة لاحتضان زرقة السماء وتنفّس هوائها، وفي استعداد كامل لأن تُصلب وتُرجم وتُبعثر مرة أخرى، واثقة بقدرتها على مقاومة صيحات الوجع وتحمل فداحة مشهد تساقط أحلامها. تدفن خوفها في صدرها وتتمرد على الواقع وتعيد الكرّة وهي موقنة من أنها لن تُهزم ولن تهوي في قاعٍ مظلمٍ مهما استبدّ بها الألم، فقد اعتادت روحها على مقاومة الوجع بعد كل ارتطام مُدوٍّ ومباغت بسقف قاسٍ صنعته عقولٌ قاصرة، وأصوات ذكورية عقيمة.