نافذة من حياة الشيخ عبدالله بن حمدون الحارثي، كنموذج لدور الشيخ والمجلس في المجتمع العماني
حمود الحارثي
للولوج إلى هذه النافذة والحديث عن هذه الشخصية النادرة التي تحلّ محلّ الرضا والاعتزاز والفخر التامّ في نفوس الجميع، وكلمة الجميع هنا تشير للمستويين الوطني والمجتمعي، لا سيّما أبناء القابل عامّة، وقريتَي الغلاجي والمضيرب خاصة. لا بدّ من سبر أغوار الماضي حول دور المجالس، ومرجعيتّها، وأهميتها الاجتماعية في المجتمع العماني للأفراد أو الجماعات بمختلف الفئات والانتمائات.
لتقودنا الذاكرة إلى مجلس الشيخ الذي أقلّ ما يمكن وصفه هيكلياً بمكتب اعتماد ومحكمة وادعاء عام … إلخ، تتم من خلاله الإجراءات بيسر ولين وفق أنظمة عرفية تحكمها العادات والتقاليد، أسمى أهدافها المصالحة والتسامح والمسالمه في حلّ أعقد القضايا، في حين كانت دورة التقاضي لا تتعدى الساعة، وإن قلنا ساعات فقد نكون مبالغين، من لحظة دخول الخصوم إلى مجلس الشيخ حتى يتم البتّ في الخلاف وحفظ الملف، في جوّ يسوده الرضا والألفة بين الأطراف مختلفة الرأي، ويعتبر ذلك الصلح حُكم نهائي غير قابل للطعن أو النقض فيما بعد.
في زمنٍ كان يتمّ فيه تأسيس الشيخ منذ نعومة أظافره فيمن يتوسمون في شخصه الحكمة والمقدرة التي تؤهّله لحمل الأمانة وأداء الرسالة من بين أقرانه، وفي الغالب قد بلغ نبوغه علماً وورعاً مبلغه في علوم الدين والفقه، والتمتع بالقدر الكافي من التواضع والقرب من الناس، والإدراك التامّ لقضايا المجتمع، وقد بدأت عليه ملامح الاجتهاد في التصدر لأداء ذلك الدور الوطني والمجتمعي الرائد.
أهم سماته التواضع والحكمة وسرعة البديهة، وطلاقة الخطاب المتجمل بالهيبة والوقار، المشفوع بصفاء السريرة وبشاشة المحيّا، كريم الطباع، سخيّ العطاء، ثاقب الرؤية، حصيف الفكر، واسع الصدر، وهذا أول ما يستحضره الشعور عند لقائك الأول بهذه الشخصية مدار الحديث.
ومع الطفرة التقنية في مختلف مجالات الحياة، ما زال صوتٌ من الماضي الجميل يدعونا للتوقف مع بعض الشخصيات التي برزت في تاريخنا المعاصر، باعتبارها امتداداً لذلك الماضي التليد، والتي ما برحت زمانها ولا مكانها لتظلّ صامدةً مع كل هالات التغيير التي طرأت، لتبقى شامخة كالجبل الأخضر، وجبل سمحان، راسية لتؤكد دور الشيخ ومكانة المجلس المحوري في حلحلة القضايا المجتمعية، بمساهمة فاعلة في حفظ ذلك التوازن الديموغرافي للمجتمع في سلطنة عُمان، المتفرد بخصائصة وشخصياته الجديرة بالبحث والدراسة والتوثيق.
قد لا يختلف معنا كل من لازَم الشيخ عبدالله بن حمدون الحارثي في مجلسه معاصرة أو اطلاعاً على هذه التجربة المجتمعية، ليتفق معنا حول تلك التضحيات التي قدمها هذا الشيخ الكريم، المتجلي في مجلسه بقرية الغلاجي بولاية القابل من شمال شرقية سلطنة عُمان، الزاهد في صخب الحياة ورفاهية المدينة التي تمكنه ظروفه المادية من العيش في رغدها ناذراً حياته بمشاركة أفراح وأتراح أبناء مجتمعه، ملازماً لصدر مجلسه العامر على امتداد سنوات عمره الذي ما فتئ بين استقبالٍ وتوديعٍ لجمهور الداخلين والخارجين، أفراداً كانوا أو جماعات، من طلوع الشمس حتى غروبها، تتعطر لقاءاته بالمناشدة عن “العلوم والأخبار” باعتبارها عادة أصيلة في المجتمع العماني، يصاحبها تناول القهوة، بعد ذلك عرض المواضيع كاعتماد بعض المستندات وتوجيه المخاطبات، وعقد جلسات الصلح والتسوية بين مختلفِي الرأي في بعض القضايا العائلية كانت أو المجتمعية المحلية، والتي تنتهي في الغالب بالصلح والرضا، أو تحقيقٍ لبعض المطالبات العالقة التي تقدم من المواطنين لمختلف الجهات.
يقودنا هذا السرد إلى توقف عجلة الزمن عند عتبة باب ذلك المنزل بقرية الغلاجي، لنوثق نافذة من نوافذ حياة شيخنا المكرم عبدالله بن حمدون بن حميد الحارثي باعتباره امتداداً لتلك المبادئ والقيَم التي ستظل جزءً أصيلاً من حضارتنا العمانية، وشخصياتها التاريخية الثمينة في حاضرنا المعاصر، التي فرضت مكانتها الرفيعة على المستوى الوطني والمجتمعي لتبقى أثراً خالداً تتجلى فيها أروع صور العمل الوطني والمجتمعي والتطوعي والإنساني، ومثالاً يحتذى بها، قد لا يجود الزمان بمثلها، لنبقيها شاهداً على التاريخ، ومرجعاً للأجيال الحاضرة والمقبلة، مكتوبة كانت أو مروية.
بلا شكّ، إن الحياة مستمرة في تطورها، قوانين وأنظمة وإجراءات وتقنيات، كما سيظل الشيخ عبدالله بن حمدون الحارثي مرابطاً في صدر مجلسه، مستمراً في عطائه، متجلياً في رمزيته وتضحياته، وسنظل أبناء القابل نعتزّ ونفاخر به، مقدرين ومثمنين ذلك الدور الهامّ الذي يقوم به في خدمة وطنه وأبناء مجتمعه، وستظل عجلة الزمن مجبرة على التوقف متعطلة عند عتبة ذلك الباب الذي أرخى سدوله على ضفاف ساقية فلج الغلاجي الذي يتخلله عاضد الباسقات بين جنباته، ليبقى على الدوام مفتوحاً قبل أن تطرقه الأيادي لأخذ إذن الدخول، هذا ما عهده لنا الأجداد والآباء بمجالسنا الخاصة في رواياتهم عن سيرة الشيخ ومجلسه، وهذا ما عهدناه وسنعهده لأجيالنا القادمة من الأبناء والأحفاد.
يقيناً بأن حياة الشيخ عبدالله بن حمدون بن حميد الحارثي حافلةً بنوافذ كثيرة من العطاء التي توّجت بعضوية مجلس الشورى في دورته الأولى والثانية، وعضوية مجلس الدولة ممتلئةً بالإنجازات والتضحيات التي لم يتّسع بنا المقام للحديث عنها، فله منّا الشكر أجزله، والتقدير أبلغه، والامتنان أعظمه، مشفوعاً بالدعاء له بحياة مديدة سعيدة موفورة الصحة والعافية.
وهنا تستحضرني بعض أبيات قصيدةٍ شعرية حملت عنوان “مهداة” قد أهداها والدي أحمد بن سعيد الحارثي -طيب الله ثراه- للشيخ عبدالله بمناسبة فوزه للمرة الثانية بعضوية مجلس الشورى في دورته الثانية، لتكون مسك ختام هذا المقال:
جاءتك في برد الشباب تبخترا
لمّا رأت في وجهك العلياء
عرفتْ بأنك أهلها ونصابها
فأبتْ سواك الغادة الحسناء