2024
Adsense
قصص وروايات

الكريمة ..

    مريم شملان

تعيش في مجتمع قروي متآلف ومُحب، سيدة تُلقب “بالشيخ”، في تلك البلدة ذات الوادي الذي يتخلل مزارعها الكثيرة، والتي نبتت على حوافه النخيل الشاهقة في الطول وهي تحتويه بجمالها، والوادي يشق البلدة نصفين، وهو الذي يَتخلل البلدة نزولاً حتى أطراف المنازل التي تقع بمحاذاة الساحل البحري، والقرية فيها ترابطٌ روحيّ وتآخٍ وحُب.

 بلدة مكتظة بمنازل متقاربة كثيراً من بعضها البعض، قوية بسكانها وبعاداتهم القديمة، والجميع في تلك البلدة يعيش في وئام، رغم أختلاف الوجوه والبشر والسنين التي مرت عليها.

 بعد وفاة الجد، استلمت “الجدة” زمام الأمور في تلك البلدة، لُتدير شؤونها، وتُصلح بين الناس، وتسد الشقاق،

وتكرم الضيوف والمارين على تلك البلدة الساكنة على تلةٍ مرتفعةٍ عن الأرض، “والجايز” الذي يتوسطها ويصل القرية بالبلدات والقرى المجاورة، والبئر الذي يُورد منه أهل البلدة والعابرين والذاهبين إلى مناطق مختلفة لتجارةٍ أو موسمِ مرور قوافل الحَجيج، لتكون البلدة مقرّاً للراحة بعد المسير من وإلى الديار المقدسة، أو تجارة، أو انتقال، أو مسيراً للبدو الباحثين عن المراعي لمواشيهم في المواسم المختلفة، ومن العابرين المحملين جِمالهم من فاكهة “المانجو” والليمون المجفف، وكانت ملتقى المارين بها، سواء في الجفاف أو في موسم الخصب.

 تمضي الأيام على الجدة “الشيخ” والتي كانت بمثابة الحارس والكبير المُطاع، وفي أحد الأيام قَدِم إليها منذ الصباح الباكر أقرباء لها، من قرية مجاورة لبلدتها، فقامت بالواجب، من قهوة وتمر وشيء من الخبز واللبن والحليب، الذي يُعدّ وجبة إفطار لِزوّارها، وهمّت بذبح الخِراف، وأمرت جماعتها بإعداد وتجهيز غَدائهم، وقد أمرت صبياً من صبياهم للذهاب للسوق، ولكنه بعد وقت ليس بالقصير عاد ولم يجلب شيئاً لسبب هي فهمت مغزاه، وبالتالي هي التي

عادت وتوجهت إلى سوق صحار، لِتجلب ما نقص لوجبة الغداء لزوارها وضيوفها الأجلاء، خشية العيب والمعرة من التقصير في كرم الضيف، امتطت “جملاً ” ومضت، في طريقها الذي يشق مسار المزارع الغَنّاء، والخُضرة والعشب الرطيب، وسِكّة بعد سكّة تدخل وتخرج وتختصر المسافة وهي في عجلة من أمرها لتعود وتكون مع

ضيوفها الذين تركتهم في منزلها. بعد وقت قصير وصلت “الشيخة المنوفة” ذات الهيبة والشجاعة والإقدام والترفّع عن كل ذي عيب، وتمرّ بطريق يَحسب خُطى المارّة، ويعرف الوجوه والناس الذين يمرون على ترابه، القابع تحت جدارٍ قد تساقط الطين المبروش من عُلُوه لِيعطر المارة بِصبغة بُنية تميل إلى الاحمرار، إنه رداء قلعة “صحار” الشامخة وشذاه الذي يفوح منه

عَبق التاريخ، وسوقٌ يرقد على أطراف بحرٍ يرقص للمهاجرين، ويتهادى للسفن التي غادرت، وبه انتظارٌ للسفن التي ستعود، وبحَّارتها الذين في عجلة من أمرهم، وأصوات الوداع التي تُغطي دموعهم مع السؤال: هل لنا عودة لكم يا أهلنا الساكنين في هذه الديار؟ “والنهام” الذي يَطرد كل ذلك بصوتٍ شجيّ، وحِبالٌ تُرفع وتُرفع معها أكفّ أُمهاتٍ باكياتٍ راجياتٍ من الله أن يكون البحّارة في أسفارهم سالمين، وباللقاء بهم وبالغنائم عائدين، لسوقٍ يكاد يتحدث عن تاريخ، عن بطولات، والصدى لصوت الوغى يتردد، لجيشٍ قادم من غزوٍ أو من طرد فلولٍ من جنودٍ غرباء قادمين، يقودهم الطمع وحُبّ الاستبداد في البلاد، وكان أحبابنا الشجعان لهم بالمرصاد.

 تصل “الجدة الشيخ” إلى السوق الذي يتكون مدخله من مَراقٍ مُدببة للصعود والنزول، تؤدي إلى عمقٍ محفور من الطين، يتخلله مسار ذو صفَّين متقابلين، له سقف من السعف وخشب “الجندل” على شكل مستطيل طولاً، يجمع بداخله من يعمل به من أهل المنطقة، أو ممن توافدوا مع البحّارة خلال أسفارهم من الهند قادمين، ليبحثوا عن حياة جديدة من تجارة وبيع لكسب الرزق.

 تصل الشيخ إلى”البانيان الذي يعمل بالدكان” لتطلب ما أتت من أجله، “والبانيان” يَنظر إليها وهي تطلب وتشير إلى ما كانت ترغب بشرائه من الدكان كالعادة، والدفع متأخر ولكنه تعنَّت هذه المرة، فهو يريد “النقود” لسداد الديّن السابق، ولكنها تُخبره بأنها في المرة القادمة ستؤدي له المبلغ بالكامل، يرفض فتتركته بسلام، وذهبت لجاره الوافد القادم أيضاً من بلاد الهند البعيدة”، والذي أيضاً كان يبيع ما يبيع الأول من البهارات والأرز وجميع ما كان يؤتى به من تلك البلاد، فأخذت جميع مستلزماتها التي أتت من أجلها لكونها معروفة بالسوق والبلدة، فالثقة كانت موجودة عند الذين تتعامل معهم، ومن ثَمّ عادت إلى”الأول الذي رفض أن يبيعها حتى تسدد المبلغ الذي كانت تدين لهُ به، والذي رفض إعطاءها ما تريد إلا بدفع المتأخر، وأخبرته أنها تُريد أن ترى الورقة التي كُتب عليها الدينّ والمتأخرة هي عن سداده، فأعطاها الورقة كما طلبت، و”الشيخة” تجهل القراءة والكتابة، فنظرت له ونظرت للورقة المكتوبة، غلفتها بيدها، لفّتها بكفّها لتجعلها كاللقمة بيدها، ووضعتها في فمها وطبقت عليها وذهبت عنه دون أن تنبس بكلمة واحدة، وفي لحظتها أدرك البائع الحيلة والدهاء، والنية من ورقة الدين عندما طلبتها الشيخة منه، وعادت هي إلى بيتها وأكرمت ضيوفها بما كان يتوجب عليها من إكرام الضيف وأداء الواجب الذي يكون على أكمل وجه أمام القريب والغريب، فالنشأة هي من تصنع الفرد، فالحياة هي التي تهب القوة لمواجهة شدائدها.

 

“البانيان” رجل هندي من الهندوس.

“الجايز” طريق يتوسط البلدة ويصلها بالقرى وبالمناطق الأخرى.

 

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights