2024
Adsense
القصص والروايات

صوت الدراويش

شريفة بنت راشد القطيطية

قصة يرويها البحر بصوت مخنوق واشتياق مرعب لصوت الدراويش الذين جعلوا منه ملكا متوجا وسلطان صحبة ورفيق درب وكاتم أسرار وعزوة يستندون عليه وأمين رزق ومصدر سعادة ..

لنبدأ ..
يتخذ البحر من القرى الصغيرة خانات لسد ريقه، ويعرقل سير الكلاب الضالة التي لا مناص منها، يتنفس حين يهدأ الفجر ويعمر ذخيرته للصباح، وينتظر منظر الصيادين لمصافحة حيائه بعد استحمام أخذه للتو، وعرقل خيوط الشمس حتى يرتدي ملابسه الزرقاء الهادئة ووشاحه الدافئ ليستقبل الزائرين بكامل وسامته، لم تكن ليلته ساحرية كما رسم لها، كانت قريته مزدهرة بالدراويش الذين ينامون على صوت الأمواج ويعدون لاستقبال السحر برائحة القهوة وكلمات الأذان وصفاء الأذهان، كان صوته بهمسه الجميل يُسمع من نافذة البيوت المترافقة والمتماسكة بأيدي بعضها بعضا، وكان الكسل يخاف أن يسكن بجوارهم ويختبئ تحت وسائد الأسوار المهجورة.

يأتي الصيف بكامل حلته وحقائبه المليئة بالهدايا الرائعة لكل القاطنين بين البحر والمزارع ويجبر خواطر باتت ملعقة في هامات النخيل وروائح الليمون وجلبات البرسيم والشعير، يأتي ولديه بشرى واشتياق لكل التفاصيل التي يتأهب لها الجميع، وفرة الصيد وجني الثمار ولذة العيش وحماس المشتغلين بكل الأعمال في البحر والزراعة معا، أول الصباح الممتلئ بهجة ونشاطا وضحى، غائر فيه الفرح بتجمع أهل القرى البحرية على حكايات المغامرات التي حدثت لهم وفناجين السمر التي تشهد لها المواقد، وعناقيد أطفال بجانبهم لا صوت لهم إلا الفرحة!؛ يتناوبون على ألعابهم الشعبية وصوت النوارس وروائح شواء السمك.

الدراويش لديهم ادخار وهج ليوم يبعثون، يتركون متسعا لمن تأخر العودة من البحر بقوارب من سعف النجيل واستقبال حافل له كملك عاد من رحلة صيد، وآثار الرحلة مرسومة على أصابعهم بكثير من التمزق، وجميع الحاضرين يكملون عزل القارب عن البحر كي لا تتقاذفه الأمواج وقت الظهيرة، ينبت بين الضحى والظهيرة زرق عامر ويكسوه الرضا ويتفق الجميع على مرور الغيث لكل بيت ويتنافسون على الإيثار واتخاذ القرار، وربما يأتي النعاس لمن أرهقه التعب وغلبت عليه نسائم ساحرة أدخلته غفوة حرة خالية من العتب، ما أجملها من نومة لا تستغرق أكثر من دقائق يعود منها مجاهدا منتصرا وتضج جماليات المكان بصوت الأذان ومسيرة العشق تتوافد للمساجد على هيئة أقدام مسرعة.

القيلولة بمقام استرخاء في الغيم وتعبئة وقود لنشاط قادم لعصرية طويلة في حرم الصيف، صوت أذان العصر يقود المتعبين للترجل ومشي لمسافات طويلة لسعي ينتظر العزم، فتجد الجميع بعد صلاة العصر في مزارع البسطاء ينشدون الجد والاجتهاد، وتكثر الأواني السعفية المليئة بمزيج خلاب لا يعرفه إلا الصيف من الرطب والليمون والزيتون، تكسوه روائح الياسمين النائمة في كف ورقة البيذام على وقع أصوات المزارعين وهم يصنعون الدعن من سعف النخيل والحبال من ليفها المتماسك، وصوت محركات المكائن التي تجلب المياه من العمق لسقي المزروعات، هذه السيمونيات لا يعرفها إلا صيف الدراويش بغناء الشمس الناعسة وقت الأصيل، ليعود الجميع محملا بالخيرات للمنازل .

تهطل أنامل الغروب بأريج ساحر على جباه القرى وتمتزج بلون الليل الذي يبدأ مبكرا، حلقات الذكر والتعلم والتدبر تنتهي بصلاة العشاء وتعود بهم لجلسات لا تخلو من الرضا والقناعة وأخذ أخبار أحوالهم والشد على أيدي كبار السن لأخذ خلاصة حكايات تجاربهم ومعاركهم في الحياة، الدرويش منهم لا ينام قبل أن يستأذن رفاقه فالكل لديه معركته الخاصة في الصباح، والبحر مبتسم لقصصهم التي تروق لمسمعه.

مع الفجر وخلف قارب مهجور يبتسم جدي للوافدين من المسجد بعد أن صلى الفجر بدمع حزين لعدم استطاعته الوصول للمسجد لمرض ألم به، ودعاهم للجلوس على بساطه العائد من معركة ضارية وصوت عبد الباسط عبد الصمد يتلو آيات من الذكر الحكيم من مذياع قديم بجوار موقد يتيم بروائج القهوة واللبان تمتزجان لتعبئا القرية عطرا، وقواب الصيادين لهفة.

الرحلة للصيد مجدية وغاية في المتعة وشمس الصيف خجلة في ذلك اليوم، وبهدوء تام تأخذهم لشاطئ مليء وصاخب بما يسمى (الضغوة) وهي جلب كميات كبيرة من الأسماك بطرق تقليدية وتعاون جماعي من أهل القرية، الكل لديه ما يفعله هذا اليوم، والغداء موحد لكل البيوت، ومساحات شاسعة مُلئت بالسمك الصغير للتجفيف تحت الشمس، وما إن بدأت الهدنة بين البحر وأهل القرية، إلا وسُمع صوت ذعز من الجهة الأخرى للقرية.. نفوق حوت ضخم بالكاد يتنفس، الجميع يهرع لموقع الحدث وبكل السبل التي فشلت لن يتم إرجاعه للبحر لضخامته وهلع القرية، هل فكر الحوت أن وزنه في الماء نفس وزنه على اليابسة؟!، الكل يفكر ..وأخيرا مدوا شباك الصيد التي استخدموها وسحبوا الحوت القادم بلا أعذار إلى البحر، كم كنت مرهقا أيها اليوم ! .

الأحداث التي تعقد اتفاقا بين البحر والمزارع لها لذتها ومذاقها المميز، ولا مجال لضيق او تذمر أو استياء، الجميع تملؤه رباطة الجأش والبساطة والرضا والبحر الذي لن يتردد يوما في تحسين مزاجك وملأ صدرك بهجة، اليوم صارت القرى باكية مساوية للأرض بلا ناس ولا حياة، والبحر ضرير ينتظر من يقوده لصلاة الفجر، ولا يسمع ضجيح نشاط الصيادين، لم يعد للدراويش صوت وهم مجبرون للبعد عن البحر في بيوت مقفلة حتى عن نسائمه، إلا من يخنقه الشوق وتحدثه الذكريات لمصافحة البحر كل صباح، وكانت لديه الوسيلة التي تأخذه بلا تردد لشاطئ عامر بحديت الأجيال المتعاقبة والذكريات التي تنام كل ليلة على شاطئه العاشق.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights