العالم كله بداخل قلم
زوينة بنت بطي اليعقوبية
حين تتنهد الأقلام، ويتحول صريرها إلى ما يشبه سمفونية أو قيثارة أحلام وألحان؛ يمتزج الحبر الأسود ببياض الصفحات، وتتلاشى معه مساحات الفراغ القلقة.. تلك المساحات التي ناحت فيها حمائم الشوق للكلمات فغردت معها الأنامل.
حينما يمر قلمك على الورق فكأنك تعانق القمم البلورية ساكبًا فيها كل ما في الأعماق… ذلك الأمل المختبيء خلف لحظات الانتظار، الابتسامات المتغيبة إلى حين عودة المسافرين، الشفاه التي لا تفتر عن الدعاء، والأكف المرفوعة الضارعة نحو السماء . عندما تكتب فإنك على وشك أن تطلق طيرًا حبيسًا من بين القضبان، أو كأنك تحاول أن تفك رموز لغز محيّر من ألغاز هذه الحياة.
الكتابة هي الشاطئ الوحيد الذي تستطيع أن تطرقه مشيًا على أناملك، وتجمع من ثراه ما شئت من صور الجمال الذاهل التي لا شبيهًا لها ولا ضريبا.
حين تكتب تخشى على أطراف أصابعك وهي تنثر الكلمات على تلك الصفحات البيضاء … أترى هل هناك من شيء أضوع من الكتابة، وأعبق من رائحة الحبر الجديد على الورق حين تنسكب عليه الحروف و الكلمات فتمر على يديك وكأنها تستلهم خواطر الروح .
هل هناك ما هو أجمل كلمحها تتآلف وتتناسق بلا تعارض، وكأنها قد بريت على هواك وشقت على خطاك.
حين تكتب فإن صرير قلمك يروي بمداده عطش المعرفة ويصرع مع كل حرف ظلام الجهل ويمد مع كل سطر فكرًا جديدا . لست أبالغ إن قلت إن الكتابة كأس مقدسة لا ينسكب فيها إلا كل نبيل من أنواع الفكر) فالكتابة سحابة مشبعة بالحكمة الرافلة وهي هبة الله للإنسان وهتافًا في النفوس.
حين يترنح قلمك على ضفتي ورقة فإنك بلا مبالغة تغدو في محلمة سمو وريحانة فردوس وأقحوان أزل، معه تنطلق كل نداءات الأمل المخبوءة، وبفضله تعلو أغاريد الحنايا المشبوبة بشذاها وعبقها، تحس بسحرها وتشهد على جرسها كلما كان الكاتب أكثر تألقًا وتعلقًا بما يكتب، وتلمح ذلك من الصوت المدل من قلمه.
الكتابة عالم وضيء مليء بالجمال النازع إلى الخلود، يبعد عنك شبح الفراغ ويجعل دماءك تغلي شغفا و نهما، تصنع منك إنسانًا جليل القدر، عالي الهمة، سامي القيم. فعجبًا لمن يكتب، ألا يهيم ورقه وينطق قلمه وتفرد سطوره جناحيها نحو السماء، وعجبًا أين تذهب الكلمات بعدما تطير من أقلام أصحابها!!