من ذاكرة الطفولة .. مهن شاقة
سعيد بن خميس الهنداسي
كانت الظروف المعيشية للعُمانيين صعبة للغاية، قبل وبداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث كان يسود البلاد كساد تجاريّ، وانخفاض شديد في القدرة الشرائية، وانكماشٌ ملحوظ في النشاط الاقتصاديّ، وقد مرّت أوقات صعبة ومريرة على الأُسَر والحكومة في تلك الفترة، كما لم تكن تتوافر أعمال أو فُرص لوظائف متاحة، وكان يعيش الناس في ضنك ومشقّة وقلّة ما في أيديهم لتَحمُّل أعباء الحياة اليومية، لذا، أجبرتهم متطلبات الحياة العمل في مهن شاقّة طوال اليوم نظراً للحالة المُزرية التي كانت عليها البلاد، حيث مارس أهالي ساحل الباطنة مهن البحر والزراعة وتربية الحيوانات، بل إن بعضهم حاول مزج أكثر من مهنة لتوفير مستوىً معيشيّ أفضل لأسرهم من خلال تنويع مصادر الدخل؛ لذلك سأتناول في هذا المقال حالتين:
الأولى، عندما امتهنتُ صيد السمك وتربية الأغنام.
والثانية عندما امتهنتُ صيد السمك والزراعة.
أذكر في ذلك الوقت أن عمي “حميد” بالخويرات وعمي “عبدالله” بالغليل كلاًّ منهما كان يخرج للبحر لصيد السمك على فترتين بسبب الحاجة، حيث يذهبان وقت العصر ويعودان بعد العشاء، ومرة بعد الفجر ويعودان ضحىً، وهذا ما عايشته مع الشخصيتين رحمهما الله.
فبعد أن “يسيح” -أي يعود كلًا منهم من البحر-، “نشور الشاشة”- أي نسحب القارب المصنوع من سعف النخيل من البحر لليابسة-، نأخذ ما تبقى من السمك الذي قاما بصيده إلى البيت، بعد ما يبيع جزء منه في شاطئ البحر، فإذا كان السمك الذي تم صيده كميته كبيرة، فإنهما بعد ما يسبحان ويأكلان شيئاً بسيطاً، ويحملان ما صاداه من سمك إلى السوق بالخابورة، أو بسوق البداية في حالة إذا وفّقا بسيارة متجهة للسوق، وعند عودتهما يشتريا بنزيناً من المبلغ وبعض الأشياء للبيت، ويرتاحا قليلاً، ثم يقوما بتجهيز معدّات الصيد بما فيها من خيوط وشِباك وطُعم للسمك، وعند العصر يستأنفان نفس المشوار اليوميّ.
وأذكر أنه في بعض الأحيان في حالة صيد العمّ “حميد” كمية متوسطة من السمك، ولم يتمكن من بيعها، أقوم بحملها وأدور بها على البيوت في الحارة لبيعها، وإذا بقي شيء منها أقوم بأخذه إلى الحارات المجاورة، وهذه العملية متعبة للغاية، فحمل السمك بوزن ثمانية أو عشرة كيلو جرام أو أكثر، والمشي به مسافات طويلة في حدود ثلاثة أو أربعة كيلومترات وفي ذروة حرارة الجو، ليس بالشيء السهل، وقد لا يُباع كلّه، وأعود به نفس المسافة قرب وقت الظهر، وأنا منهكٌ من حرارة الشمس، ومن العَرق وتعب الأحمال لمسافات طويلة، وأنا بعمر الثامنة تقريباً.
وإلى جانب عمل العم “حميد” بصيد السمك قامت الوالدة أيضاً بعمل مشروع آخر لا يقلّ أهميةً لتحسين دخلهم، حيث قامت بتربية الأغنام لسرعة نموّها وتكاثرها، بالإضافة إلى سهولة تربيتها مع ضمان عائدٍ ماديّ في حالة البيع منها. وقد وُفّقت الوالدة في استثمار مثل هذا المشروع، وقامت أيضاً بدعمه بشراء مجموعة من الدجاج للاستفادة من تكاثرها ومن بيضها، وقامت أيضاً بشراء عجل صغير للتربية، وفي فترات أخرى قامت بشراء رأس بقر للاستفادة من لبنها وسمنها ومواليدها، كل ذلك ما كان ليتم لولا توفيق الله والهمة، كما أن كل ذلك كان يتوقف على مدى توفر المادة، وهي بطبيعة الحال صعبة جداً، ولكن يتم الشراء ولو بالأقساط أو على دفعات بعيدة، كما أنها حاولت أن توفر من المبلغ الذي كان يتركه لها زوجها أثناء سفره لتدير به البيت، وكذلك تستغل المبلغ الذي كان يرسله زوجها للبيت، وهنا كان لي دور كبير في مساعدة الوالدة من خلال توفير الطعام لهذه الحيوانات، فكل يوم نقطع مسافات طويلة للبحث عن الأعلاف من المزارع بالشراء أو “نحش” أي نقص من الأعلاف العشوائية، كما أنني أقوم في الصباح برعي هذه الحيوانات في الأماكن التي فيها عشب، ونستغرق الساعات في ذلك، ونعود قبل الظهيرة، كما أنني كنت أساعد الوالدة بالذهاب إلى الأماكن التي فيها ماء، ونحمل قِدراً أو “دبه” -علبة كبيرة- تزن تقريباً عشرين كيلو جرام، وفي حالة ذهابها هي في الصباح الباكر أقوم أنا بإعداد القهوة والشاي وتجهيز وجبة إفطار بسيطة.
وفي الجانب الآخر عايشتُ ارتباط العم “عبدالله” بالعمل في البحر وفي المزرعة ومحاولته التوفيق بينهما، ففي حالة عدم ذهابه للبحر، فإنه بلا شك سيقوم في الصباح الباكر ويذهب ليسقي المزروعات حتى الظهيرة، ثم بعد صلاة العصر يذهب للمزرعة مرة أخرى حيث يقوم بسقي المزروعات والاعتناء بما فيها من نخيل وأشجار ليمون ومانجو وجوافة وأعلاف وأشجار أخرى متنوعة، وفي حالة تطلّب الوضع تواجده أكثر بالمزرعة، فإنه يقضي فترة النهار فيها، وجزء من الليل يخصصه للبحر دون كلل أو ملل، ولا مجال لديهم للراحة إذا أراد أن يعيش ويوفر لأسرته حياةً كريمة ومُرضية، فقد أجبرتهم متطلبات الحياة على العمل في مهن شاقة طوال اليوم.
نسأل الله أن يمتّع الأحياء بالصحة والعافية والعمر المديد، وأن يغفر للأموات منهم ويرحمهم ويجزيهم عنا ما يستحقون من نعيم الآخرة.