حرية
لولوة القلهاتي
ما هي الحرية؟
ما حدودها؟
ما السياقات التي تُقبل ضمنها أو لا تُقبل؟
هذه التساؤلات دارت في ذهني حين أرسلتْ لي إحدى الصديقات منشوراً على الواتساب يتحدث عن تجربة قامتْ بها رسّامة غربية على نفسها، حين قالت لروّاد معرضها أنها ستعطيهم مطلق الحرية في أن يفعلوا بجسدها ما يشاؤون، وأنها وضعت على إحدى الطاولات في المعرض عدة أدوات يستطيعون استخدامها، ومن ضمن الأدوات:
وردة ومسدس وموس ومقصّ وألوان وماء وعطر وغيرها من الأدوات مما لا أذكره الآن. وقالت أنها لمدة ست ساعات ستكون في حالة سكون تامّ، وفي هذه المدة يستطيعون التصرف بجسدها كيفما أرادوا. وبدا على الناس الارتباك بادئ الأمر، إلا أنهم تجرأوا بعد ذلك، فاستخدم أحدهم الوردة لمداعبة خدها، واستخدم الآخر اللون لرسم شيءٍ ما على جسدها، ومزّق الآخر ثوبها بالمقصّ ورشّ أحد الزوّار العطر عليها. ثم بدأت الأمور تأخذ منحنىً آخر حين رأوا أنها لم تحرّك ساكناً لردعهم ولم يتدخل أحد لإيقافهم، بدأوا بالتحرش الجنسي بها، ثمّ جرحها أحدهم بالموس، ثم بلغوا الذروة حين حشى أحدهم المسدس وحاول إطلاق النار على رأسها لولا أن الآخرين انتبهوا لتلك اللوثة من جنون الحرية التي أصابتهم ومنعوه.
هذا التجربة تدلنا إلى أيّ مدىً يمكن للإنسان أن يتوحّش، وأن يخرج عن فطرته السليمة، فيقوم بالعدوان على الآخرين إن لم يكن هناك رادع يردعه ويوقفه عند حدوده ويسائله عن تصرفاته ويجبره على تحمّل مسؤولياته، ودفع ثمن أخطائه وعدوانه.
ولا أدري لماذا دائماً أتذكر شذرة من الشذرات قرأتها منذ زمنٍ طويل تقول: “أن الإنسان لا يمكن أن يكون حراً حرية مطلقة إلا إذا كان وحده في هذا العالم”.
بمعنى أنه طالما هناك آخرون يشاركونك الحياة فأنت لستَ حرّاً في أفعالك ولا أقوالك.
والتشريع الدينيّ يفوق القانون الوضعيّ البشريّ من وجهة نظري في ضبط حياة الإنسان وعلاقته بالآخرين، لأن شرائع الدِّين مغلّفة كلها بغلاف الأخلاق والعلاقات التبادلية السلمية للمنافع بين الناس، بينما القانون الوضعيّ البشريّ نصوصْ مغلّفة بغلاف المصالح، ودفع الضرر وجلب المنفعة دون النظر إلى دوام العلاقات بين الأطراف المختلفة، ولا بين الإنسان وبيئته بكل ما تحويه من مكوّنات وحيوات.
والدِّين الذي أعنيه هنا ليس هو تلك المنظومة الشرائعية المُحكمة فقط، بل هو أيضاً دين الحياة؛ الدِّين الذي يمتلك منظومة قضائية متكاملة قوية، لكنه قبل اللجوء إليها، فإن لديه منظومة أخرى يستعين بها، وهي منظومة سلوكية مجتمعية أخرى مساندة أسمّيها (منظومة الصلاح والتقوى والإحسان والآداب). المنظومة التي أساسها وقوامها التربية الصالحة للأفراد والمجتمعات وغرس القيَم النبيلة، وتقديم القدوات الهادية، ونمذجة الحياة الهادئة الهادفة للفرد المسلم. فهذه هي التي تمنع كثير من الانحرافات، وتهذّب السلوكيات، وتعالج في الصدور الآفات. لهذا أقول عن يقين أن الدِّين مانعٌ أخلاقيّ لنوازع الشرّ لدى الإنسان؛ إنْ هو رُبِّي عليه فقد كفى غيره شرّه وكفاه شرّ غيره. وأما إن لم يرتدع ونزعه نازع الشرّ فارتكب ما يستحقّ التجريم، فعندها تُطبّق عليه الأحكام المنصوصة.
ولكن ما حدث ويحدث في مجتمعاتنا والعالم، من تضييع للحقوق وانتهاك للحرمات والتعدّي على الثوابت بحجّة الحريات، فهو محمول على خروج الناس عن فطرتهم السويّة، واتّباعهم الأهواء والمصالح وغلبة الشهوات، وابتعادهم عن تطبيق الشرع الإلهي وعن الأخلاق السوية، والتربية على الفضائل، مما أوصل العالم كله إلى الانحطاط الأخلاقي الذي نراه اليوم عبر ادّعاء الحرية، والمناداة بإطلاق حرية الشهوات والعدوان.
يقول الكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي في مذكرات كاتب: “في التصور الحالي عن العالم يُعتقد أن الحرية هي إطلاق العنان للرغبات، في حين أن الحرية الحقيقية تكمن في التغلب على الذات والنزوات، بحيث يصل المرء في نهاية المطاف إلى تلك الحالة الأخلاقية التي تمكّنه من أن يكون سيداً حقيقياً على نفسه، في أي لحظة. أمّا السعي المستمر وراء تحقيق الرغبات الجامحة فلا يؤدّي إلا إلى العبودية”
وللنجاة من موجة الانفلات القادمة للعالم، فإن أكثر ما نحتاجه اليوم هو تربية إسلامية سوية، وإلى نفوس رضيّة، وإلى قلوب عامرة حيّة.
التربية بالوعظ وحده لا يعوّل عليها، والتربية بالوعد والوعيد لا يعول عليها،
والتربية بالنار والحديد لا يعول عليها، وحدها التربية بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وبالقدوة الحسنة وبالهدي الرسولي القويم، وباحتواء الشباب الناشئ، وغرس القيم لديهم بطرق محببة جاذبة، هي التي يعول عليها وينتفع بها على المدى الطويل.
فلا نفع في أقوال لا تنتج أفعالاً، ولا نفع من مربّين جُهّالاً، ولا نفع من وعظٍ بالجنة والنار والناس يشكون الفاقة وسوء الحال.
كل هذا يؤثر على ما تختزنه عقول الناشئة الصغار، فهم يتعلمون شيئاً ويرون في الحياة نقيضه في البيوت والمساجد والملاعب والمدارس والأسواق والشوراع، يرون التناقض الصارخ وكأن الناس تعيش حالة فصام في الشخصية، بحيث يجمع الشخص الواحد الأمر ونقيضه في آنٍ واحد. فتلتبس عليهم المفاهيم ويستقون معانٍ للحرية وقيمة الفرد من مشارب أخرى غير الدِّين، ويقتبسون شعارات لا دخل لها بالحرية المحمودة، وإنما جاءت من نصوص تحثّ على حرّيات منفلتة وفردانية مقيتة.
ولنتذكّر في خاتمة القول أن الحرية لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن تكون مطلقة ليفعل المرء ما يشاء ساعة يشاء وأينما شاء وكيفما شاء. وأن حرية الفرد تنتهي عند النقطة التي تبدأ منها حرية غيره. وأن الفطرة السوية لا تتقبّل الحرية المنفلتة غير المحدودة، فهي قطعاً ستكون غير محمودة. فهذا النوع من الحريات عادةً ما تؤدي إلى انفلات الغرائز من عقال العقل، ويصعب التحكم بها، فتهوي بالإنسان من رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية كما بيّنتْه لنا التجربة التي أوردناها في مقدمة المقال { فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} سورة الحشر، الآية 2.