اللون الزهري
خالصة بنت علي السليمانية
رحلت أمي وأنا في القماط ملفوفة بعد ستة أشهر، تزوج أبي ولم يمض على زواجهما إلا شهران وحملت زوجة أبي، ربتني أنا وأخي شهاب. كانت حالة أبي المادية تحت الضعيفة، بيتنا يتكون من غرفتين وصالة صغيرة مع مطبخ صغير ، ورغم ذلك كان يرغب في المزيد من الأطفال الذكور وتحققت رغبته، أصبح لديه ستة أولاد من غير شهاب، وكنت الفتاة الوحيدة بين سبعة أولاد، كنت ألبس مثل ما يلبس أخي شهاب، لم يكترث أبي كوني فتاة تريد أن تلبس الزهري، زوجة أبي كانت تشفق على إخواني فقد حرموا من أبسط الأشياء. أذكر أن ملابسهم كانت كلها قديمة ومن عطايا من الآخرين، فكيف لها أن تشتري لي فستان، وأولادها لم يلبسوا الجديد يوما أو ربما لم تتحرك لديها غريزة الأمومة اتجاهي؛ لأني لست ابنتها رغم أنها كانت حنونة معي، وعلمتني الكثير وفعلت الكثير، حاولت أن تغير شيئا في الملابس القديمة التى تقدم لإخوتي، وتسرح شعري بصورة جميلة.
لم يكن أحد يشعر بوجودي ولا مرة، كان زهريًا بين الملابس القديمة التي تُعطى إخوتي، كنت أغمض عيني حين تفرز زوجة أبي الملابس القديمة مع إخوتي، وكنت أنتظر صوت أحدهم يقول انظري! وجدت فستانًا؛ ولكن لم يتحقق حلمي! كيف ألوم الآخرين وأبي لم يشعر بي يومًا؟!
عذرت أبي على عدم اهتمامه بي لحزنه على أمي، أو أوهمت نفسي وخدعتها لكي لا أشعر بالحزن؛ فهناك أحزان في قلبي لم أجد لها عذرا ، حين بلغت العاشرة من عمري، اقترحت عمتي أن تتكفل برعايتي، أبي وافق دون تردد وأنا فرحت أن حياتي ستتغير وسألبس اللون الزهري.
كان لدى عمتي حُلم بأن تهاجر إلى بلاد بعيدة، كانت تعمل كل الأعمال التي يمكن أن تدر لها المال. المجهول مخيف ولكن رغم ذلك تعلقت به لأني أردت أن أغيّر حياتي، إلا أنها لم تتغير! فما زِلتُ ألبس الملابس التي أحضرتُها من بيت أبي، وما زالت ملابس المدرسة مرقعة؛ بل كنت أساعد عمتي في بعض أعمالها، ووعدتني أن تشتري لي ملابس جديدة ولكن انتظرت طويلًا حتى أنني حصلت على فستان قديم زهري اللون، كأنه لم يُلبس أبداً. أقنعتني عمتي أن نبيعه ونحصل على المال مقابله، في يوم من الأيام رأيتُ المرأة التي اشترت الفستان وبجانبها فتاة تلبس الفستان، وكانت سعيدة وجميلة، إلا أن الأمر المحزن أنني لم أتخيل نفسي بهذا الفستان! وقلت في نفسي لن أبدو جميلة باللون الزهري. لم تدمع عيني في ذلك اليوم كأني أيقنت أني لن ألبس الزهري يومًا ما!
مرت سنةً كاملة على مُكوثي في بيت عمتي، خلال هذه الفترة كنت أزور إخوتي بين الحين والآخر. لم تشتر عمتي لي ملابس جديدة، كانت تُصلح بعض الملابس التي أحصل عليها. لا بأس بها، على الأقل كانت في الأصل لفتيات.
نعم، أخيرًا حققت عمتي حلمها بعد أن حصلت على مبلغ لا بأس به، وفي تلك اللحظة لم أعرف عن مصيري شيئًا، هل سأرحل مع عمتي، أم سأعود إلى إخوتي؟
لقد تعلمت من خلال السنوات الماضية أن رأيي لا قيمة له، ولا قيمة لما أريده ، فكل ما عليّ أن أنتظر ما سُيقال وما سُيفعل.
المجهول يفاجئنا كلما اقتربنا منه، توفيت عمتي وهي تحزم حقائب السفر، انتزع الموت حلم عمتي، أم أنا لم أعاتب عمتي ولا الموت!
قالت عمتي: إنها سترجع يومًا ما لتأخذني معها بعد أن تستقر أمورها.
رجعتُ إلى بيت أبي ولم يتغير أحد في ذلك البيت إلا العُمر، شعرت أن أبي شاخَ وزوجته كذلك.
حصل أبي على مال عمتي، ودخل شريكا مع (أبو هشام) في التجارة، أبي لم يفهم كثيرا في التجارة ولكنه كان متيقظًا دائمًا، أبو هشام هو الذي أدار شؤون التجارة؛ لأنه كان ذكيًا، وبعد عدة سنوات توسعت التجارة. أذكر أني كنت حينها بالثانوية وأخي شهاب كذلك. ازدادت الأرباح تغير حالنا، اشترى أبي بيتًا كبيرًا، وزوجة أبي حصلت على خادمة، ووعدها أبي أنه سيحضر أخرى، إخوتي انقسموا كل اثنين في غرفة واحدة ما عدا شهابا. دخل كلية التجارة لكي يدير عمل أبي بعد ذلك.
أما أنا فحصلت على غرفة طُلِيتْ جدرانها باللون الأبيض، وأثاثها باللون الزهري، أشتريت ملابس كثيرة بألوان متعددة، وأقل لون بينهم اللون الزهري. اللون الزهري مجرد رمز يدل على شيء فقدته في الماضي ولن أستطيع تعويضه، تألمت كثيرًا حين فقدته، وتعلّمت أكثر حين فقدته.
تمعنتُ النظر في أبي يومًا وقلت في نفسي كان يجب أن تغمرني بالحب، كان هذا هو اللون الزهري في حياتي.