العزيمة ..
مريم شملان
خطواتها سريعة تغور في رملة البيت، عاقدة النية على ما نصحتها به كبيرة الفريج “الجدة غبيشة” على الذهاب والإختفاء من ظلم زوج الأم، وتبحث عن من تأوي إليه، فما كان منها إلا الرحيل إلى أحد أصدقاء والدها في الشمال، فتُوقظ أخيها الصغير في ليلة فيها البدر قد أكتمل على سواحل بركاء الصافية ومياه بحرها الحالم، تخرج من مَدخل المنزل ذو الجهة الواحدة المحددة بالنصف كالباب يَطل على البحر وقد أستدارت عليه “حوطة” من السعف بكل الاتجاهات، بين تلك المنازل القديمة ” بالفريج” ، ذو المنازل القليلة المتداعية لِبسطاء طيبون، وأشجار خضراء تراها شامخة الطول تُغطي المنازل لتحمي أهالي تلك الحارة من حرارة الصيف الشديدة، بظلها البارد العليل في أوقات الشمس اللاظية، تخرج مُسرعة ممسكة بيد أخيها والذي كان ينام ملتوياً بخوف غارق في النوم من التعب والبكاء الخفي، والحزن الذي قد أتَت به الأم والتي لهم بالدنيا المأوى والسند بعد وفاة والدهم، ولكنها تزوجت برجل آخر حتى يعينها على تربية أولادها، وأن يكون لهم الأب من بعد وفاة والدهم، ولكن كان بحياتهم الظالم المُستبد.
تستعجل الخُطى وتدفع الرمال بقدميها بقوة، وترجو النجاة حتى لا تعود لمكان أصبح مطموس الذكريات، وصور من تُحبهم أمست دخان يَخنقها كل ما أوت بعزلة لِتذكّرهم، أو كلما عَادت بفكرها لسعادة كانت بها، أجهشت بالبكاء من جورٍ وظلمْ.
وتستمر لتتابع الطريق البحري، وتَمشي هي وأخيها على حافة الموج حتى لا يُتبع الأثر، وهي على ذلك الأمر من الخيالات والصور تدور في عقلها من التهديد والوعيد، والجري في تلك الرمال الحارقة والسقوط في أحضان النساء اللواتي تجتمعنْ لقهوة الضحى، لطلب الشفقة والرأفة حتى لا ينال منهم زوج الأم، وتنتهي تلك المعركة وتأتي غيرها وهم على ذلك الحال يبحثون فيها عن النجاة بالدخول لمنازل الجيران ليأخذوا عليهم “الحشيمة” ويُرفع عنهم الأذى، تعود لواقعها “أمشي” لأخيها تدفعة بيدها والذي هم بالجري لمسافة طويلة وهي تمد قدميها السريعة بين الجري والهرولة، والمُضي في الإسراع بين الراحة القليلة والتوقف لالتقاط أنفاسهم، والاستمرار بِتخطي “الخِيران والحُفر” بأقدام حافية حتى يذهب من الليل سواده، وتبدأ الشمس في كشف الأرض، ويُرحب البحر بعودتها، وتبدأ الحياة لنهار يوم جديد، تلتفت وتنظر ” غالية” إلى مسافة الليل التي قَطعتها هي وأخيها، لتستمر بالمشي حتى تبدأ حرارة الشمس تشتد عليهم، لتأوي للمزارع الممتدة على طول الساحل لتأخذ قِسط من الراحة للطعام وشرب الماء، والاستحمام من مياه الأحواض والسواقي، ويأكلون مما يجود لهم به أهل الخير وأصحاب المزارع لعابرين السبيل، أو لمن يدخل للمزرعة ويلقي التحية ويبادر بالعمل والمساعدة ويكون بين الموجودين، يشاركهم الطعام من قهوة، ورطب، وخبز ولبن، أو ما تجود به النساء وربات البيوت اللواتي يعملنْ في أعمال الصيف في جَني المحاصيل الموسمية للنخيل والليمون وتجفيفها، وأخذ ما يكون هبة لَهُن من المشاركة بالمعونة والعمل .
وكذلك الرجال وصغار الصبية والفتيات ممن يبحثون عن من يجود لهم بالتمر مقابل العمل ليكون مخزون ليالي البرد القارصة لفصل الشتاء، وما استطاعوا أن يحملوه مقابل عملهم طوال النهار بالمساعدة في حصاد ثمار النخيل، وتقوم النسوة بالإعانة لمشاركتُهن في جلب الطعام من خبز وقهوة في أول الصباح حتى ينتهي النهار ووقت الضحى العريض حتى إقتراب الظهيرة، ويذهبوا الناس للراحة، وفي كل مرة تلوذ “غالية” وأخيها ليختفوا بين الأشجار حتى يَدنوُ الليل ويقترب، وفي كل ليلة وفي كل مكان تأوي إليه نهاراً تقوم وأخيها بالدخول للمزراع وبالسكون والراحة والنوم بين ظل الأشجار وسواقي الماء، والإختفاء عن العيون حتى يجود الليل عليهم بستره، لُتستمر بالمضي بقوة أكبر بعد أن قضوا النهار بالراحة وبعون من الناس البسطاء أمدُوهم بقربة ماء أو لبن أو من بعض الخبز الذي لديهم، لتمضي عاقدة العزم باستمرارها والبدر ما زال بصفائه يُضيئ الأرض ويُداعب أمواج البحر.
رغم الخوف من المجهول ولكنها وأخيها بين حارة وأُخرى يجدون من يستأنسوا بأصواتهم والحديث معهم، مُكملين طريقهم على طول رمال الساحل وقت الصيف ليلاً،
فأهل الساحل يقضون ليالي الصيف على رمال البحر أمام المنازل في أماكن تجمّعهم، والمنازل المُبتعدة قليلاً على طول الساحل البحري، منهم من قد أفترش الرمال للغناء والأُنس والسهر، أو ممن هربوا من المنازل لشدة الحر ليناموا على الرمال للسباحة وتخفيف وطأة الرطوبة ليلاً، والبعض ممن أقام أمام منزله” منامة” لينام عليها أهلة أو ممن يَقربون له ويتم تثبيتها في الرمل من جذوع النخيل أو الشجر، ويُبسط عليها سعف وجريد النخيل لِتقيهم حرارة الرمال ولتحميهم من الهوام والحشرات، وهكذا لِتقضي غالية ستة أيام بالليالي في طريقها إلى الأمان والنجاة
من سياط القهر والظلمْ.
وبالإقتراب من الوصول والسؤال عن المنطقة في كل حارة يمروا عليها، لتصل فجراً إلى الجهة المنشودة، قبّلت رملة البحر ممتنةً لها والتي كانت أمانهم هي وأخيها في رحلتهم إلى الحضيرة الساحلية، ليصلوا صباحاً على ضوء شروق الشمس لترتمي بجوار باب المنزل، لتغفو عينيهم هي وأخيها إلى وقت الضحى، ومن ثم لتجدها صاحبة المنزل القادمين إليه، والتي أدركت أن ضيوفها ما هم إلا من كانوا يوماً أتوها زائرين، لصداقة جمعت بالحل والترحال والدهم وزوجها…
تم البحث عن غالية وأخيها، وتم إيجادهم بالمرسول الذي وصل إلى بركاء، يحمل الأخبار الطيبة، وأتت الأم لتعود بهم إلى منزل والدهم ، ولكن رفضوا العودة إليها، وآثروا بالبقاء بمنزل الوفي لوالدهم، والحنون عليهم الذي شملهم بطيبته، والمُحبْ لهم من محبة الصديق الذي ذهب ولن يعود.
،،،،،،،،،،
” الحشيمة”: إصلاح ما يكون من خلاف وإنقاذ الصبية من العقاب.