قصة قصيرة .. العصفور الأزرق
بلقيس البوسعيدية
لا أفهم الأسباب التي يشرحها لي أمي وأبي عندما أتذمر من بقائي وحيدًا في المنزل طوال فترة غيابهما، وحينما أبكي في كل صباح وأنا أتطلع إلى الخارج من النافذة وأراهم يلوحان لي تلويحات الوداع التي لم أستطع ابتلاعها أو الاعتياد عليها منذ أكثر من عشرة أعوام؛ تعود أمي إدراجها، تقترب مني وتضمني إلى صدرها قائلة والدمع يلمع في عينها تأثرا:
“آه يا صغيري أنا أرجوك ألا تفعل بي هذا. قلبي الصغير لا يحتمل بكاؤك، أنه يتعذب مع كل دمعةٍ تسقطُ من عينيك السوداوين.”.
وفي محاولةٍ منها لتلطيف الجو المضطرب، تدسُّ يدها في حقيبتها وتُخرج منها مرآة صغيرة وتضعها أمام وجهي، ثم تقول غامزة:
“انظر يا حبيبي في المرآة، ماذا ترى؟!، وجه من هذا الذي يلمع مثل قطعة الجليد؟!، هيا أجبني.”.
لا أجيب، فتردف قائلة وشفتاها تفتران عن ابتسامة رقيقة:
“آوه، انظر جيدًا يا (وليد)، أنه أنت، يا لك من ولد كبير، لقد كبرت يا حبيبي.”.
عندما يتملكها اليأس من هيئتي الجامِدة، تأخذ نفسًا طويلا، ثم تقول بصوت حنون شفيق:
“غدًا ستكمل السادسة عشرة من عمرك، ما الذي يجعلك حزين لهذه الدرجة؟!، أنا لا أفهم، أنا…”.
تصمت، تحدق إليّ للحظةٍ، ثم تكمل قائلة:
“هيا، هيا أرني بياض أسنانك يا صغيري، ابتسم ودع عنك الحزن والتذمر، أنت لست طفلًا. أنا أرجوك أعتاد الأمر. أنا وأبوك نخرج كل صباح إلى العمل من أجلك يا عزيزي، نريد لك الأفضل.”.
ثم تحني رأسها على كفي الصغير لتقبله قائلة:
“حتى لو لم تستوعب ما يحصل الآن أنا متأكدة أنك عندما تكبر قليلا، ستفهم ما الذي يحدث ولن تبكي صدقني، بل على العكس تمامًا ستفرح من قلبك وستكون ممنونًا لي ولوالدك الذي يشقى من أجل راحتك.”.
أغرق أنا في صمتٍ رهيب، بينما هي تروح تُحدق في ساعتها، ثم يرتجف بدنها فجأة وترتعش أطرافها مثل حمامة بُتر رأسها للتو، وتقول بنبرةٍ متوترة وهي تُمسّد شعري البُنّيّ القصير: “يا إلهي لقد تأخرت. عليّ الذهاب الآن يا عزيزي. كن ولدًا مهذبًا في غيابي. اتفقنا؟!. “.
أهزّ رأسي موافقًا مثل قطة شارع مبللة بماء المطر، تطبع قبلة على جبيني الصغير ثم تقفز واقفة وتستدير. تُلقي عليّ لمحة مختلسة وهي تخرج مطمئنة واثقة وتصفد الباب وراءها.
هي لا تعرف الحقيقة بعد، حقيقة أن قبلتها لم تعد تُحرك مشاعري، ليس لها طعم ولا رائحة ولا دفء، إنها باردة على قلبي مثل جثة هامدة. ثم لا تلبث أن تتصل بي هاتفيا؛ لتخبرني بأن عليّ تناول وجبة الإفطار على طاولة الطعام المهملة، ولتذكرني بحقيبتي المدرسية الزرقاء التي تجلس وحيدة في غرفة المعيشة على الكرسي الخشبي الهزاز.
إنني أحترقُ من الداخل، أشعر بالوحدةِ الشديدة، مشاعري الغريبة المتضاربة تؤلمني حد التوجع. أشعر أنني بحاجة ماسة لمن أبوح له عن مشاعري المتشابكة مثل كرة الصوف، أحتاج لمن يمنحني وقته ويفهمني دون أن يشعرني بالخوف منه. ولأني لا أثق بسهولة فلا أصدقاء لي حتى في المدرسة التي أرتادها منذ المرحلة الأولى إلى الآن وأنا في المرحلة المتوسطة منها. في الحقيقة أنا أخاف البشر، أخاف تلك الألوان التي أراها تنعكس من أعينهم البراقة، أكره التصنع ولا أعرف كيف أجامل أحدا، أو كيف أرتدي ملامح إنسان آخر، تُغادرني سجيّتي وأعيشُ في قلق مستمر عندما أكون على مقربةٍ من إنسانٍ آخر. أشعر بالوحدة الشديدة ولا ألومُ أحدًا على شعوري هذا، فأنا من أختار أن يبقَ وحيدا.
اليوم يوم عطلة، إنها الجمعة المرتقبة. أقفز من السرير حالمًا أستيقظ، لا أريد أن أضيّع دقيقة واحدة من هذا اليوم الذي انتظرت مجيئه بفارغ الصبر.
نصعد إلى السيارة، وفور صعودنا يُناولني أبي مظروفا ورقيا أصفر وهو يُحدق مبتسمًا في وجهي. أمسك بالمظروف، أتفحصه جيدا. ألقي نظرة استغراب على أبي. تقول أمي الجالسة في المقعد الأمامي بجانب والدي، وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة مشرقة:
“أنا متأكدة أنك ستفرح وستدهش كثيرًا إذا ما عرفت ما الذي يحويه هذا المظروف الذي بين يديك. هيا يا صغيري، افتح المظروف لنرى ابتسامتك الجميلة.”
فتحت المظروف على مهل؛ تهللت أساريري لأني أخيرا حصلت على النقود التي طلبتها من والدي في عطلة نهاية الأسبوع الماضي؛ كي أبتاع عصفورا أزرق. أحب العصافير، أحب تغريدها الباعث في نفسي الحب والأمل والأمان والحرية، وكم أغبطها لأن لها جناحين وتستطيع التحليق عاليا في الفضاء الرحب وقتما تريد وكيفما شاءت.
يا لفرحتي العارمة،وأخيرا امتلكت عصفور أحلامي! ها هو ذا عصفوري الأزرق الناعم الملمس يشاركني وحدتي والتطلع إلى ضوء الشوارع والبيوت البعيدة. في اللحظة الأولى التي سقطت فيها عيناه الخضراوان عليّ؛ شعرت ببريق شفاف ليس له مثال يشع منهما، نظراته تلك التي لمحت فيها روحًا بيضاء تستنجد من عمقٍ سحيقٍ طلبًا للحرية؛ أصابتني في الصميم وسقطت صريع الحب فيه، اخترته من بين عشرات الأصناف من العصافير المحبوسة في أقفاص من حديد في محال بيع الحيوانات الأليفة في (سوق الجمعة القديم).
صار شمعة مضيئة في حياتي. وضعته بجانب النافذة اليتيمة المطلة على شجرة بيذام وارفة الظلال تسكن أغصانها عصافير ذات لون رمادي، وفي بعض الأوقات تحدث العصافير ضجة وتنشد تغاريد صاخبة، تمرح وتلعب وتصعد إلى الأغصان ثم تنزل وتصعد وتهارش بعضها بعضا وكأنها تريد بذلك أن تثير دهشة عصفوري الصغير الذي ما فتئ يغرد بوهن وشجن وقد أرخى نظره إلى الأرض.
مرت ثلاثة أيام كاملة والعصفور لم يأكل فيها سوى مرة واحدة، ولم ينم فيها سوى سويعات قليلة من التعب تمكنت خلالها من الاقتراب منه ولمس ريشه الناعم وجسده النابض بالدفء والحياة. حلمت به البارحة حلما غريبا، كان ممدا في القفص وهاله من الضوء تحيط برأسه فتجعله أقرب إلى ظل دون ملامح، كان خامدا بغير ما حراك والريش الأزرق ينسلخ من جناحيه ويتطاير بخفة عابر النافذة إلى الخارج، إلى أغصان شجرة البيذام العملاقة. النافذة مفتوحة تماما، ضوء الشمس يغمر الغرفة، الستائر الحريرية البيضاء تتراقص برشاقة، العصفور ساكن وشبه عار من الريش، والسماء صافية تماما، وكنت أنا أقف مندهشا في مكاني من هول المشهد، والغريب أنني لم أسع إلى منع تطاير ريشه الأزرق إلى الخارج رغم شعوري العارم بالحزن وبالفجيعة تجاه حال عصفوري المسكين.
لن أنتظر أن يتحول حلمي إلى حقيقة، لن أسمح لعصفوري أن يصبح فريسة سهلة في فم الموت؛ لذا قررت أن أطلق سراحه هذا الصباح.
أعلم علم اليقين أن قلبي سوف يؤلمني لفراقه وأن الوحدة ستعود تفترس ساعاتي الجافة من جديد، ولكني أشفق عليه، أشفق على هذا الكائن الرقيق الوديع الذي أضاء ظلمات حياتي. لن أتراجع عن قراري هذا إطلاقا؛ فأن يموت حيًا خيرًا له من أن يحيا ميتا.