مقال : قول على قول
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
أستعير عنوان هذا المقال من عنوان برنامج كان يقدمه الأستاذ حسن الكرمي – رحمه الله – عبر هيئة الإذاعة البريطانية الـ (bbc) منذ زمن بعيد، وكنت من المعجبين بهذا البرنامج، وبمقدمه في فترة الثمانينيات إبان افتتاني بهذا الجهاز العجيب (الراديو)،” سألني السيد فلان: من القائل وما المناسبة” هكذا كانت صيغة البرنامج.
وقول على قول في معناه الآخر كثرة التنظير، والثرثرة، والرغي”، والمحصلة مجلدات من المحاضر، وجداول الأعمال، ومثلها من القرارات والتوصيات، والملاحظات، حيث ضاقت بها أدراج الطاولات، وأرفف الدواليب، وإن كان اليوم الحمد لله قلصت هذه الضائقة المكانية أجهزة الحاسب الآلي بما تتسع به عبر التخزين الإلكتروني؛ الذي تتعاظم السعة فيه بالقدر الذي لا يمكن تخيله مطلقا، فجهاز لا يتجاوز حجمه (إنشا واحدا) يتسع مئات الآلاف من الملفات، ولعل الحاجة تتطلب هذا الأمر للتخزين، لأن ” التنظير، والثرثرة، والرغي” تزداد يوما بعد يوم، وتتشعب موضوعاته، ولن يتوقف ما يقي ابن آدم على وجه هذه البسيطة.
ومما يؤخذ على هذه الثرثرة أن لها دورا كبيرا في تحجيم مستوى الإنجاز، وهذا الإنجاز ليس فقط على المستوى المؤسسي، وإنما على المستوى الفردي أيضا، فكثير من المنظرين في الشؤون المختلفة، عندما تقترب منهم أكثر تجد أن مساهمتهم في الناتج الخاص أو الاجتماعي لا يكاد يذكر، “وعاد تعال اسمع التنظير في المجالس بتقول هنا الدنيا” هذه إشكالية موضوعية في فهم الدور، وفي تأصيل ثقافة الكلام الكثير، ولذلك تكثر اللجان: اللجان الفرعية، واللجان الرئيسية، واللجان المشرفة، واللجان المنبثقة، واللجان المتابعة، واللجان التنفيذية، واللجان المناوبة، واللجان المساندة، ومسميات لا أول لها ولا آخر، وكله تنظير في تنظير والمحصلة الناتجة لأية فكرة خاضعة للنقاش لا تحتاج أكثر من فريق عمل مصغر يتحرك وفق خطوات (1؛2؛ 3) فقط، وتحل المشكلة، ولكنه استسلام لثقافة تأسست على هذه الصورة “التنظير”، وأصبحت أهم طوبة في بناء الإنجاز المتوقع لأي مشروع، وهذه حال يشترك فيها الجميع مؤسسات وأفراد.
منذ فترة؛ ليست قريبة؛ غرد سعادة السيد إبراهيم البوسعيدي عبر صفحته في تويتر بنص العبارة التالية: “هناك من يتحدث لمدة ساعة في محاضرة او جلسة حوارية عن طريقة صياغة الاستراتيجيات، وفي تلك الساعة هناك من ينجز شيئا رائعا على أرض الواقع”.
عبارة في قمة الواقعية، ولذلك يشار في سرعة نجاح كثير من المشروعات التي يتبناها الأفراد بصفتهم الشخصية، اكثر من سرعة نجاح مشروعات تخصص لها كل الإمكانيات البشرية والمادية بما يفوق تكلفتها، والسبب هنا واضح، انه في الأول قول وفعل على الواقع في آن واحد، اما في الثاني: فـ “قول على قول”، وتتناسخ الأقوال وتتكاثر الاجتماعات، وتخرج التنظيرات عن سياقاتها المطلوبة في كثير من الأحيان، وما يمكن أن ينجز في أشهر معدودة، يتطلب الأمر الى إنجازه في سنوات، ومعاملة بسيطة يمكن إنجازها في لحظات فقط، يصبح إنجازها في أسابيع، – لأنه في حالة الواسطة؛ تنجز نفس المعاملة في دقائق معدودة – وبذلك تتعطل مصالح البلاد والعباد، والسبب في كل ذلك هذه الأقوال المتسلسلة التي لا أول لها ولا آخر، خاصة اذا كان مكافأة الاجتماعات تتوقف على المدة الزمنية لكل اجتماع.