مساحتي الشخصية
د. رضية بنت سليمان الحبسية
تعدّ التكنولوجيا المعاصرة وبرامجها التفاعلية سلاحا ذا حدين، فإن كان لها من الفوائد، يمكن أن ينتج عنها مضار، والذي يحدد ذلك، الغاية من استخدامها، ومستوى الوعي بكيفية الاستفادة منها على المستوى الشخصي والعام، وفي مقالتي هذه سأكتب بعضا مما لاحظته، أو تنامى إلى مسمعي من تعليقات حول ماهية وأهمية المساحات الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، متناولةً الموضوع وفق رؤى متباينة حول الظاهرة، مع التركيز على بعض الاستراتيجيات التي يمكن من خلالها تقليل مساوئ استخدام تلك التقنيات.
النظرة الأكثر تحفظًا: على الرغم من أن المساحات الشخصية أصبحت أسلوب حياة لدى الكثيرين، فإنها لم تسلم من انتقادات بعض المتابعين لما يتم نشره، أو عرضه كحالات يومية عامة أو خاصة، حيث يرى البعض، أن نشر تفاصيل يوميات الشخص لتكون كتابًا مقروءًا على الملأ، أمرًا منبوذًا. كما أن مناصري هذا الاتجاه لربما لديهم مخاوف من الانغماس في عالم التقنيات، وأخذ مساحة كبيرة من حياتهم على حساب أولويات أخرى، أو تأثيرها في قيم مجتمعية ما، فلا تكون هناك خصوصية لحياة الناس، إلى جانب تحول العالم إلى عالم رقمي خالٍ من المشاعر والعلاقات الإنسانية، التي تجعل من أواصر القرابة أقل متانة، بفعل سيطرة الحياة الافتراضية.
النظرة الأكثر انفتاحًا: تعبر عن وجهة نظر الكثير من فئات المجتمع ممن يواكبون الحداثة والتطور التقني في شتى مجالات الحياة، ولا نستطيع أن نُطلق عليهم بأنهم، منفتحون بلا قيود، بقدر ما نعتقد أنهم حريصون على التعلم المستمر، وتوظيف ما يتم تعلمه بالطريقة التي تحقق لهم غايات شخصية، إلى جانب المتعة في إحداث التغيير في جوانب من حياتهم. إن أصحاب هذا الاتجاه استوعبوا سريعًا أهمية المعاصرة لكل جديد، وفهم معطياته ومحاذيره، وكيف ومتى يستخدمونه، والمدى الذي يتحركون في حدوده؛ فتبددت لديهم المخاوف من كل مستحدث، على اعتبار أنه كائن لا محالة، فالتعاطي معه بحكمة أسلم، وأكثر أمانًا من البقاء في دائره الجهل بتجنب الاقتراب منه؛ فتكون العواقب حينها وخيمة.
وبالنظر لوجهات النظر السابقة، نرى أن لكل إنسان حرية في توظيف مساحته الشخصية بالطريقة التي يراها مناسبة وبمسؤولية تامة عما ينشر أو يغرد به، ما لم يتخط الحدود الأخلاقية، أو التسبب بإذاء لأشخاص آخرين بالتجريح الصريح، أو النقد السلبي الموجه لجهة ما، أو السخرية بشخصية لها صفتها الاعتبارية؛ لذا نجد أن الناس يلجأون للتقنيات الحديثة التي أتاحت لهم مساحة للتعبير عما يجيش بهم من مشاعر في ظل ازدحام الحياة اليومية، والسعي للبحث عن متنفس يعبرون من خلاله عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم، أو طريقة يفيد بها الآخرين من خلال نشر درر قيمة، أو عبارات تحمل حكمة، أو أذكارًا وأدعية تريح النفس البشرية، أو دعوة لحضور مؤتمر أو ندوة، تصل إلى شرائح أوسع خلال فترة وجيزة، كذلك الاستمتاع بمشاركة الآخرين بلحظات غبطة وسرور يعيشها الفرد، أو لحظات حزن عميقة يمر بها، فيجد من بين المتابعين من يسليه بكلمة، أو يشاركه آلامه بالتواصل الشخصي، في زمن قلّ التواصل فيه حتى ممن يظن البعض أنهم الأقرب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ليس كل ما ينشره المغردون أو يعرضه مستخدمو الحالات الواتسابية على سبيل المثال هي حالات وقتية يعيشها الشخص نفسه، فمن خلال استقراء آراء الكثيرين، نجد أنهم يؤكدون أنها حالات لا تمثلهم البتة، بقدر إعجابهم بمضمونها ومحتواها، فيغردون بها أو يعرضونها للعيان، لربما يحتاجها متابع، أو تؤثر في مُطلّع، فتغيّر لديه قناعات، أو تُعدّل لديه سلوكيات، بالتأمل في مضمون تلك التغريدات أو ما تهدف إليه تلك المنشورات.
ومع كل ذلك، فإن من المخاطر والمحاذير التي لا تخفى على أحد، إدمان استخدام تلك التقنية، خاصة من قبل المراهقين من الشباب ذكورًا وإناثًا، وفي ظل غياب الرقابة الوالدية، والجهل بالقوانين التي تنظم استخدامها وأمن المعلومات المرتبطة بها، يجعل الأمر أكثر وطأة، لما يمكن أن يعرضهم للانزلاق في قضايا أخلاقية، أو حالات ابتزاز إلكترونية، من قبل قراصنة الإنترنت، التي تتخطى الحدود العالمية، لافتراس أطفال ومراهقين، واستغلالهم فكريًّا أو جنسيّا، مقابل جني أموال بتوظيف التكنولوجيا بطرق غير أخلاقية، فيأخذونهم على حين غرة، بالضغط عليهم لمشاركتهم معلومات أو بيانات شخصية، تتعلق بحسابات بنكية، أو مواقع سكنية، فيجرون معهم الضحية بلا مراعاة للإنسانية، أو لاعتبارات أخلاقية.
ختامًا: إن الاستخدام الآمن للأجهزة الرقمية والبرامج والمنصات والتطبيقات، يتطلب المعرفة التامة بكيفية استخدامها، وأخلاقيات توظيفها، والوعي التام بالقوانين المنظمة لها، التي تحفظ حقوق مستخدميها؛ لكيلا يقع المستخدم ضحية بين أنياب المتمرسين والأكثر خبرة، وهذا ينطبق على الصغار والكبار معًا. ولا يعني ذلك أن تكون هناك حواجز وهمية، ومخاوف غير مبررة لمقاطعة المستحدثات التكنولويجة والرقمية، فقد أصبح التحول الرقمي لا محالة في ظل الثورة الصناعية الرابعة، وغزو الذكاء الاصطناعي شتى مجالات الحياة الإنسانية، الأمر الذي نؤكد عليه من خلال هذه المقالة، أهمية التعلم والتثقيف المستمر؛ للإحاطة بكافة جوانب تلك التقينات والبرامج والمنصات، ومعرفة كيف تستخدم، ولما تستخدم، ومتابعة كل جديد قد يطرأ عليها، فلا سبيل سوى التجدد والتقدم، لاتقاء شر منتجيها، والمروجين لها، والاستفادة من مزاياها؛ مما يساهم في تطوير مجالات الحياة المختلفة، في إطار منظومة أخلاقية عالمية.