رِحْلَـتِى إِلَى البيتِ الحرام
ميمونة بنت علي الكلبانية
منذُ عدةِ أعوام كانت أمنيتي للسفر وزيارة بيتِ الله الحرام، فكانت الظروف المادية لتحقيقها شبه مستحيلة، ولأني فتاة ما زلت باحثة عن عمل زادت من صعوبة تحقيق ذلك الحلم، فكل الظروف رأيتها تجري عكس ما أتمنى وزادها أيضًا استغفال ما كنت أسمعه من بعض الناس؛ حيث تقول ” إنها تريد السفر ولا تمتلك المال؛ من أين لكِ أن تحققي تلك الأمنية؟!”. لقد كانت تلك الكلمات تنزل على قلبي كالسيف وتجعله ينزف، لكن كانت كلمتي حاضرة دون تردد فأقول لهم؛ “الله هو الذي يرزقني وهو حسبي”.
مرت الأيام والأسابيع والأشهر وأنا أتجرع كلماتهم، لكن ثقتي بالله كانت أكبر من تلك التفاهات، إلى أن ساق الله لي الفرصة من فضله وتوفيقه، فقد كانت هناك مسابقة متعلقة بتقديم بحث وستكون مقابلها الحصول على الهدايا، وهي عبارة عن تذكار سفر إلى الحرم المكي، إلا أن الأقدار شاءت بعدم الحصول عليها وذهبت مني تلك الفرصة، وقد أصابني الحزن كثيراً وأصبحت فتاة تشبه الوردة الذابلة؛ لأنها لم تجد من يسقيها!
ومن حسن الأقدار، فقد كنت أشارك صديقتي المقربة بالذي يحصل معي، فشاركتني الحماس وعدم اليأس، وقالت: “أتمنى أن يرزقنا الله بالعمرة”. مرت الأيام وأنا أنتظر تلك اللحظة إلى أنا أرسلت لي إعلانا يخص هذا الأمر؛ إلا أنني لم أتشجع، وقلت: “ربما لن تكون لي هذه الفرصة وغيرها”، لكن بعد إلحاح صديقتي هممت بالتواصل بأحد الأشخاص بتلك الحملة (حملة الأمانة للحج والعمرة)، وتم الرد؛ “هل أنتم مستعدون؟”، ولله الحمد، كان ذلك خلال أيام قليلة. ورغم ضيق ذات اليد، يسَّرَ الله عز وجل لي كلَّ شيءٍ، ودبَّرَ لنا بفضله وكرمه الأمور كلها.
لقد كان أعظم مسير بالنسبة لي مع حملة الأمانة، لما يتميزون به من نقاء القلوب وتعاملهم بلطف سواء كان قبل الأخوات الرائعات أو الإخوة القائمين على الحملة ومن معهم من المسافرين معنا في نفس الرحلة، فقد كنا كالعائلة الواحدة التي تجتمع تحت سقف واحد.
نعم، تلك هي المرة الأولى التي تَطأ فيها قدماي أرضَ الحرمِ الشريف، ولله تعالى الحمد والشكر، فقد كانت تلك الرحلة الطيبة خير حدثٍ مَرَرْتُ به، ومر بي الزمن وأنا أنتظر تحقيق أمنيتي، ولي في هذه الزيارةِ العطِرَة عبر وحكم وعطايا، منحني اللهُ إياها.
وهنا أتوقف مع نفسي ومعكم، لبرهةٍ من الزمن حول هذا المعنى البليغ والمهم للغايةِ في قوله تعالى: “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”.[من آية ٣: سورة الطلاق].
حقًّا.. إذا صَدَقَتْ النية مع الله سبحانه وتعالى في كل شيء، وفى أي أمر تسعى إليه؛ لكانت إعانة الله وتسهيله وتوفيقه لك حاضرة وبقوةٍ، وهذا هو الفَصْلُ في فهم الآية الكريمة، فكل فردٍ منا ليس عليه إلا الأخذ بالأسباب والتوكل على الله والنية الصادقة، ولنتركْ النتائجَ على ربنا، فهو وحدَه القادرُ على كل شيء، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد استشعرتُ هذا المعنى في ذلك الوقت، فلا قلة المال ولا المشكلات التي نمرُّ بها ولا البعدُ ستقف حائلًا أمام تحقيق هدفك في زيارة بيت الله الحرام، وتحقيق أمنيةٍ تمنيتها وسعيتَ لها.
والآن، أعودُ ثانيةً إلى العمرة وأجوائِها الإيمانية الرائعة والإحساس البديع الذي أحسسته في تلك اللحظة منذ ركوب الحافلة إلى أن وطئت قدماي الأراضي المقدسة، متجهة إلى مكة المكرمة، وأنا في حالة وجدانية لم أمر بها من قبل!.
أتممتُ كلَّ شيء والحمد لله، ووضعتُ حقائبي في الفندق، وتوجهت برفقة العزيزين أمي وأخي رفيق الرحلة المباركة إلى هذا المكان الذي يشع نورًا وبركة، وتوسلت إلى الله بالدعاء قائلة: “اللهُمَّ زِدْ هذا البيتَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزِدْ مَن شرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ، ممن حَجَّه أو اعْتَمَرَه تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا”، وما إن اقتربت من البيت الحرام لم أستطعْ التحكمَ في مشاعري، وعندما دخلتُ ورأيتُ الكعبة َالشريفة لأول مرة في حياتي رَأْي العين، أحسستُ بشيءٍ غريبٍ يسري في جسدي. فشعرت بهيبة المكان وتمتمت في قرارة نفسي “اللهَ اللهَ على حلاوة وروعة هذا المنظر! فاللهم اكتبها لكل من تمنَّاها، اللهم آمين.
إنَّ أكثرَ ما لفتَ انتباهي في هذا المكان الطاهر هو نقاء القلوب وصفاء النفوس، إذ إنك تحترمُ من بجوارك وتبتسم في وجهه وأنت لا تعرفُه، بل ربما يكون صاحب لغةٍ غيرِ لغتك، ولكنْ صدقًا، فإن القلوب هنا تتلاقى فلا شحناءَ ولا خبثَ ولا كذبَ ولا نفاقَ ولا رياءَ، ولا كل أمراض الدنيا التي نقابلُها في حياتنا يوميًا، وهذا الذي نحتاجُه صدقًا لكي ننجحَ ونتقدمَ نحن أمة الإسلام، فحين نتحلى بصفات الحبيب المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم؛ فلا نتباغضُ ولا نتخابثُ ولا نحملُ في أنفسنا كِبرًا، ووالله العظيمِ لو فعلنا ذلك، فلن تتكالبَ علينا الدنيا ولا أعداء الإسلام.
لاحظتُ كذلك خلال تلك الرحلة المباركة فضل اللغة العربية علينا، وفضل حفظِ وقراءةِ القرآن الكريم بسهولةٍ ويسرٍ، فوالله لقد توقفت مع نفسي وأنا أرى آخرينَ يبذلون الجُهدَ الجَهيدَ في تعلم كيفيةِ قراءة القرآن الكريم، بل هم حريصون كلَّ الحرص على التعلم والقراءة، ونحن أبناء اللغة العربية نهجرُ القرآنَ، بل نسيئُ إلى اللغة العربية في كتابَتِنا وقراءتِنا، فلا نجيدُ قواعدَها، ولا نهتمُ بها ولا نحْرص على تعلمِها على النحو الأمثلِ.
إضافة إلى ذلك، فقد رأيتُ للأسف الشديدِ بعضَ التصرفات التي لا تليق بِنَا كمسلمين خاصةً في خير بقاع الأرض، سواء كان ذلك أثناءَ الطواف أو في الصلاة، فمن ذلك، الاستخدامُ المُبالغُ للهواتف المحمولة أثناء أداءِ المناسكَ المقدسة؛ من تصويرٍ وبث مباشر وتدافعٍ غيرِ محموم عند الحجر الأسود؛ لذا أنصحُ نفسي وكلَ المعتمرين بالكف عن إفساد عُمرتِهم بالتصوير والبث المباشر أثناء أداء المناسك، ولست ممن يطالب بمنع التصوير، فقد تصورتُ وفرحتُ والحمدُ لله؛ ولكنْ افعل ذلك بعد انتهائِك من أداء العمرة، حتى لا تفقِدَ أجواءها وقيمتَها وربما ثوابَها.
في نهاية كلماتي هذه أقول: “إنني أردتُ أن أقُصَّ هنا ولو جزءًا بسيطًا مما رأيتُ في تلك الرحلة المباركة، كي أوضحَ عظمَ هذه الرحلة، وأدعو بقلبٍ صادق كلَ أصدقائي وأحبابي ممن لم يَتشرُفْوا بتلك الزيارة، أن يجعلوها في مقدمةِ أولوياتهم ويسعوا إليها جاهدين، والحمد لله رب العالمين، فمهما كُنتَ مثقلًا بالهموم النفسية والعثرات المادية والالتزامات الحياتية؛ فإنِّ الله سبحانه وتعالى سوف ييسرها لك. فقط أقول لك: “اعقدِ النية، وتوكلْ على الله، ولا تنْسَنِي وأمةَ الإسلام ِمن صالح دعائِك”.
بارك اللهُ لنا ولكم، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال بالنيات.