تغمدك الله برحمته يا أبا محمد
خلفان بن ناصر الرواحي
إنه ليوم عصيب تلقينا فيه خبر وداع شخص كان من أعز الإخوة الذين عاصرتهم منذ صغري، وتشرّبت من معين مدرستهم الأخلاقية الرفيعة مثلما تشرّب غيري منها، وترسخت في ذهني بعض الذكريات الجميلة التي عايشتها معه في فترة الفتوة والشباب، فكان ضمن قائمة المخلصين الذين انتهجنا من معينهم جرعات من شهد الفضيلة التي يتمتع بها مجتمعنا العُماني الأصيل منذ القدم، فكان نعم القدوة، ونعم الصاحب، ونعم الحاذق الفطن الذي لا يتغير معدنه منذ عرفته حتى وداعه الأخير إلى مستقر رحمته سبحانه وتعالى.
نعم، إنه المرحوم -بإذن الله تعالى- الأخ العزيز خلفان بن يوسف بن سرحان الراشدي، من قرية وادي قري بوادي بني رواحة بولاية سمائل، والذي وافته المنية فجر يوم السبت ١٥ شوال ١٤٤٤هـ الموافق ٦ مايو ٢٠٢٣م ؛ حيث تلقينا خبر وفاته التي كانت بعد تأديته لفريضة صلاة الفجر من ذلك اليوم، فلم يكن الخبر وقعه سهلًا علينا ولا على أقربائه وأحبابه، وأهل قريته أو أهالي وادي بني رواحة أو لمن عرفه بدماثة خلقه، فرغم إيماننا التام بمشيئة الله وقدره عليه وعلى غيره من بني البشر؛ فإنه بلا شك يختلف رد الفعل لاستقبال بعض من هذه الأخبار عن الآخر؛ وذلك لما لهذا الفقيد من مكانة مميزة، ومعزة خاصة في محيط أسرته، ومجتمعه ووطنه، وربما حتى خارج نطاق حدود وطنه، وتذكرت حينها بعض الأبيات التي قلتها سابقًا في فقد أخ عزيز مثله وأحسبها تعبّر عن نفس الحدث، والتي قلت فيها:
رحلت أُخيَّ في يومٍ عصيبِ
وشمْسُكَ قد رسَتْ نحو المغيبِ
رحلت وعين دمعي في انهمارٍ
وشطآن المقابر في لهيبِ
لقد كنت الرفيق لنبض قلبي
بفقدك ما بقى لي من حبيبِ
جنان الخلد ذا مني رجاءٌ
ألا ضُمِّيه فيكِ فلنْ تخيبي
لقد عرفته كما عرفه غيري وأنا في ريعان شبابي عندما كان يأتي ليمارس رياضة كرة القدم منذ فترة السبعينيات الميلادية، فكان من المؤسسين الأوائل لكوكبة نجوم فريق الظاهر التابع لنادي سمائل، الفريق الذي كان يحتضن العديد من أبناء قرى وادي بني رواحة وهي؛ (منال، بياق، وادي قري، وصاد) بالإضافة لعدد كبير من خارج الولاية أيضًا في تلك الحقبة الزمنية، فكان -رحمه الله- ضمن ذلك الرعيل المكافح والحريص على وحدة الصف والتعاون فيما يخدم مصالح الناس والمجتمع، بعضهم من فارق الحياة منذ سنوات، وبعضهم ما زال على قيد الحياة، كما عايشته وعملت معه في العديد من الفعاليات الوطنية والاجتماعية والثقافية؛ فكان شعلة في النشاط والتضحية بالمال والحال، وحريصا جدًا على المشاركة الفاعلة في المقدمة دون كلل ولا ملل، وتعلمت منه الكثير من الدروس الحياتية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من بعض مفردات تعاملاتي الحياتية، كيف لا وقد تميز كغيره في العديد من مفردات التعامل بالرفق والعفو والصفح الجميل وكظم الغيظ وغيرها من الأخلاق الحميدة والقيم الإنسانية والاجتماعية التي انتهلنا وغيرنا من معينها، وترسخت في تعاملنا الحياتي؛ وما تلك السجايا إلا هي خير دليل على سموّ نفسه الطاهرة الزكية رحمه الله.
لقد كانت جنازته -رحمه الله- مهيبة، وما ذلك العدد الكبير الذي حضر مراسم التشييع وتأدية واجب العزاء إلا خير دليل على رضا الناس عنه، ولهو خير برهان على سمعته المميزة التي كان يتحلى بها في حياته، فقد كان مشهد تشييع جنازته مهيبا حقًا، وتوافد الأعداد الكبيرة خلال أيام العزاء الثلاثة التي أقيمت له، دليل آخر على رضا الله عنه – محتسبين ذلك له برحمته سبحانه وتعالى- فالصغير والكبير أبكاه فقدهم شخصه، وما عُرِف عنه من سجايا وخصالٍ حميدة.
لقد عُرِف عن المرحوم -بإذن الله تعالى- أنه كان نعم الأب ونعم المربي، ونعم الأخ الناصح المرشد، ونعم الرفيق، كما أنه كان واصلًا لرحمه للقريب والبعيد، وحريصًا على زيارة المريض، ومحافظا على صلاة الجماعة في المسجد، والورد القرآني لا يتركه، ومتصدقا ومتبرعا في كل أعمال الخير والبر والصدقات، ومصلحًا بين المتخاصمين، ورجلا مضيافا للقريب والبعيد، ولا نزكي على الله أحدا؛ فتلك الخصالِ ليست بحروفي قد سقتها لكم في هذا المقال؛ وإنما استخلصتها أيضًا من أقوال كثيرة ممن كانوا قريبين منه أكثر مني، سواء من أرحامه أو أقربائه أو من صاحبه في عمله أو لازمه في حلّ أو سفر، فالمجال بلا شك لا يتسع أن نعدد ونسرد الخصال، ولكن الأثر الجميل هو المرتضى وهو غاية نسعى لها جميعا، ونسأل الله أن يتقبله ويشمله بواسع رضاه ورحمته، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته بجنة عرضها السموات والأرض؛ إنه سميع مجيب، ونسأل الله أن يكون ضمن زمرة المتقين الأبرار، ونقول كما قال سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾.[سورة البقرة]، ولنعتبر في حياتنا ونتذكر قوله سبحانه وتعالى؛ حيث قال: ﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) ﴾. [سورة الفجر ].