2024
Adsense
قصص وروايات

قصة قصيرة .. وصية أمي

بلقيس البوسعيدية

السماء زرقاء صافية، والشمس تلمع برقة في عيني، والطقس بارد، ولا رياح تهز رؤوس الشجر أو تراقص أثواب البشر.
اسمي “أحمد”، وسوف أسرد لكم وصية أمي.
في لحظة صفاء، وفي جو مثل ما وصفته لكم مقدماً؛ اتخذت قراري بأن أخرج من البيت وأتمشى قليلا على شاطئ البحر. ألبس أجمل ما عندي من ثياب، أضع عطرا برائحة الورد، وأصفف شعري بطريقة جديدة لم أجربها من قبل، أتفحص تقاسيم وجهي في المرآة المهشمة من أطرافها، وأجرب نظراتي لآلاف المرات، أبتسم تارة وتارة أقطب حاجبي، يا لفرحتي العارمة!؛ إنها المرة الأولى التي سأخرج فيها وحدي.

نوارس تحلق، وأطفال يجمعون الصدف ويدسونه في جيوب سراويلهم الجانبية، وصبيان يحاولون اصطياد موجة هاربة من أعماق البحر، وعجائز يمرغون أقدامهم الحافية في رمل البحر الدافئ، ومراهقات يرتشفن الشاي ويضاحكن النسمات الملعوبة.

عبر بي إحساس عذب جميل، كل شيء يربطني بهذا المكان؛ شغب الطفولة، أكواب الشاي بنكهة الزنجبيل التي كانت تعدها لنا أمي في كل مرة نجيء فيها إلى شاطئ البحر، أصوات النوارس وقارب الصيد الصغير الذي يبحر فيه والدي ولا يعود إلا مع غروب الشمس وبيده سلة مصنوعة من سعف النخيل مملوءة بأسماك السردين. ذكريات تثير فيَّ الحنين والشجن وتغوص بي في ماض جميل.

أقرر أن أكمل مشواري إلى المقهى الذي يأخذني إليه والدي، مقهى يطل على شاطئ البحر، سقف مفتوح، طاولات زجاجية، وكراسي خشبية، مقهى واسع أرضيته الداخلية من الأسفلت، وحديقته رمل البحر، وسوره من سعف النخيل، يرحب بي النادل الوافد بابتسامة وديعة ويعطيني فنجان قهوتي ويتمنى لي وقتا طيبا.
لقد كنت وحدي، والمكان خال، أسند رأسي إلى المقعد، وأبحر عميقا في السماء الزرقاء، أفكر فيما أوصتني به أمي هذا اليوم. لقد أمسكت بيدي أثناء خروجي من المنزل، كما لو كانت تخشى ألا أعود إلى الأبد: “لا تتأخر، عد إلينا بسرعة، عد قبل عودة والدك، أرجوك.”

لم تكن أمي سعيدة هذا الصباح، لقد لمست الحزن في رجفة صوتها، فلماذا يا ترى؟!، وما سبب ذاك الحزن العظيم الملتصق بعينيها؟!.
الساعة تشير إلى الثانية عشرة والنصف ظهرا،
آواه، يا إلهي، لقد مضى الوقت سريعا كوميض برق، لقد تأخرت، يجب أن أذهب سريعا؛ كي أصل إلى المنزل قبل عودة أبي.
وأنا أنزل الشارع في طريق عودتي إلى المنزل كنت أتذكر ما قاله لي أبي بالأمس، فبينما كنت ألعب مع إخوتي الصغار، فاجأني صراخه بعصبية جنونية وهو يشملني بنظرة جارحة: “تبًا لك، متى ستصبح رجلا يعتمد عليه؟!، لقد بلغت السابعة عشرة من عمرك وما زلت تركض وراء الأطفال، تلعب وتمرح بجنون وكأن لا عقل لك. اسمع، دع عنك اللعب واللهو أنه للأطفال وأنت ما عدت طفلا يا هذا، متى ستكبر لتصبح رجلا صالحا مثلي؟، متى ستجعلني فخورا بك؟.”

أصل إلى المنزل، أفتح الباب، يركض إخوتي الصغار لاحتضاني فرحين بعودة أخيهم الكبير، أقبلهم وأوزع الحلوى التي اشتريتها بثلاث مئة بيسة من بقالة العم (خالد) الملاصق بجدار منزلنا. كنت أحرص على توزيعها بينهم بالتساوي؛ حتى يتساوى الفرح في قلوبهم الصغيرة. يأخذونها وعلى وجوههم تبرعم ابتسامات بريئة يكسوها الغبار. يقولون “شكرا” وهم يلهثون من فرط تعبهم، ثم يعودون لممارسة لعب كرة القدم. ما أروعهم! إنهم مضيئين في منتصف النهار مثل النجوم تماما.

أصفق الباب خلفي، أتقدم بضع خطوات وألمح أمي في الرواق تسير متوجهة إلى غرفتها ببطء شديد مثل من يجر شيء ثقيل خلفه، تمشي خطوة وتتعثر خطوتان، مشتتة البال، من الواضح أنها لم ترني. أناديها: “أمي، أمي.” لا ترد علي، وكأنها لم تسمع صوتي قط ولم تشعر بوجودي حتى. ما بها يا ترى؟!، ما الذي يحصل هنا؟!.
“مريم، يا مريم.” لا رد، بدأ الخوف يتسلل إلى قلبي، ليس من عادة أختي (مريم) ألا تجيب على ندائي، أنها منعزلة ومنطوية على نفسها، لا تخرج من البيت إلا برفقتي أو برفقة أمنا، تقضي معظم وقتها في إعداد الطعام وتنظيف المنزل والاعتناء بأمي وإخوتي الصغار.

“مريم، أين أنت يا مريم.”
أتوجه نحو المطبخ، أفتح الباب وأنادي مرة أخرى: “مريم، هل أنتِ هنا؟!.”
“وأخيرا، وأخيرا عدت إلى المنزل؟!، لماذا تأخرت، هاه، لماذا؟!.”
قالت وهي تقف وراء ظهري بقامتها القصيرة، ونحافتها، وبدت على وشك البكاء، إنها ليست على ما يرام.
لذت بالصمت، فواصلت حديثها بسرعة وغضب:
“لقد سمعتها بأذني وهي تترجاك لتعود مبكرا، سمعتها تقول لك،” عد بسرعة، عد قبل عودة والدك، ” قالت لك عد مبكرا ولكنك لم تفعل، لماذا؟!، لماذا لم تعد كما طلبت منك؟!.”
تطلق تنهيدة طويلة:
“لو أنك عدت مبكرا… لكانت الأمور الآن على خير ما يرام.”
بدا الهواء جامدا، خانقا، وثقيلا، قطرات من العرق تنزل على جبهتي. سألتها:
“ماذا تقصدين بكل هذا؟!، ما الذي حدث في غيابي؟!.”
تنظر إليّ نظرة حادة، ثم تجيب وهي تحرك أصابعها بطريقة آلية دون أن تنظر إليهما:
“أنتِ طالق، طالق، طالق. ثلاثة، قالها ثلاث مرات وخرج يرفرف بجناحيه كمن اكتشف للتو قدرته على الطيران.”
تتسع مقلتاي في ربع جلي: “ماذا، هل… هل طلق أبي أمي؟!، هل هذا ما تقصدينه يا (مريم)!؟.”
تجيب بنبرة مشحونة بالغضب وقد قست نظراتها: “هذا.. يا إلهي.. ليس هذا فحسب، لقد تخلى عنا، هكذا وببساطة تخلى عنا جميعا، كنت…”
تبتلع غصة عالقة في حلقها، ثم تكمل:
“كنت أحاول تهدئة الأمور حينما وقعة الواقعة، لكنه أبي فجع قلبي، شعرت لوهلة بأنني أهوي في قاع لا قرار لها، كسرني حينما صرخ في وجهي مثل أسد غاضب: ” لست أباكم، من هذه اللحظة أنا لست أباكم”. تلك النظرة الشريرة من عينيه افترستني كليّ، قتلت كل جميل فيّ، تبرأ منا كما تبرأ من أمي التي حفظته في قلبها منذ سنوات طويلة. إنها تحبه، رغم القسوة التي مارسها علينا إلا أنها تحبه من صميم قلبها، أنا أعرفها، أعرف أمي جيدا، عندما تحب أحدا فإنها لا تعرف كيف تكرهه.”

تغرورق عيناي بالعبرات، نبق صامتين لفترة، ثم تكمل (مريم) حديثها قائلة بحسرة وهي تسحب نفسا عميقا:
“فاجأتني تلك الصلابة التي شعرت بها للمرة الأولى في أمي، لقد كانت شجاعة جدا، آه لو أنك رأيتها كيف قاتلت لأجلنا، لقد حذرت أبي، تلبست روح لبوة وقاتلت من أجلنا، قالت له: “لن أتركك تراهم في حياتك مطلقا، حتى لو بكيت دما لن تراهم في حياتك، لن تشم رائحة صغاري ما دامت الروح تنبض في جسدي هذا.”

ظللت أفكر فيما سمعت، هل كانت أمي قوية حقا، لا، لم تكن كذلك، لقد رأيتها منكسرة، منهارة القوى، بدت لي روحها تعرج في جسدها من فرط حزنها، لقد كسرها أبي ولم يبقي منها لنا شيء. كانت تبتعد عنا وتنزوي مع نفسها كلما قسى عليها والدي، تهرب من الكون أجمع بداخلها، تصير ملاذها وأمانها بطريقة ما، أنها تواسي نفسها بنفسها دون حاجة لأي واحد منا. هي لم تبخل عليّ وإخوتي بالحب، لا أذكر بأنني قد نمت ليلة واحدة دون أن تطبع قبلة على جبيني رغبة منها في الاطمئنان عليّ، لكنه أبي لطالما كان قاسيا وصلبا، إنه يغضب بسرعة وينفعل مثل وحش كاسر أمام أصغر الأمور وأتفه الأسباب، فكم هي المرات التي ضربني فيها ضربًا مبرحا عندما كنت أرتكب خطأ ما بغير وعي مني. إن أبي لديه اعتقاد راسخ بأن الضرب يحول الصبيان إلى رجال، يريدني أن أكبر، أن أغدو رجلا بين ليلة وضحاها، تبًا له ولمعتقداته العقيمة، لم يكتمل نمو شاربي بعد، ما زلت طفلا في عين الكون أجمع، ما زلت طفلا يا هذا. ولكن لا، ليس الآن، ليس وأنا في هذه اللحظة التي صقلتني كما تصقل الحياة الرجال الأقوياء.

أفكر الآن كيف لي أن أواسي أمي، وماذا أقول لها؟!، يا ترى هل هي غاضبة مني لأني لم أنفذ وصيتها؟!. لقد تأخرت في العودة إلى المنزل وحدث ما حدث، فما ذنبي أنا؟!، ماذا كان سيحدث لو أنني قد عدت مبكرا؟!، هل سيكون لوجودي لحظتها أي نفع أو أي قيمة؟!، آه يا إلهي، هل ستحملني أمي ذنب كل ما حصل هنا كما فعلت أختي (مريم) قبل قليل؟!.
لا بأس، لا بأس في ذلك فأنا أستطيع… أستطيع أن أتحمل ثقل ذنبا كهذا. أنا الآن رجل، لا، لست طفلا، أنا رجل من أجل أمي، من أجل إخوتي الصغار وأختي (مريم)، من أجلهم جميعا أنا رجل حقيقي.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights