هل صلاةُ التهجّد جماعةً بدعةٌ؟
فوزي بن يونس بن حديد
abuadam22f@gmail.com
التهجّد مصدر من فعل تهجّد يتهجّد الناسك في الليل، معناه صلّى فيه وأقامه في طاعة الله سبحانه وتعالى، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾
[ الإسراء: 79]، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتهجّد الليل كلّه فرضاً عليه كما ورد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ونافلة على أمّته حتى لا يشق عليها وذلك من رحمته ورأفته سبحانه وتعالى، تجسيداً لقوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، وقوله عز وجلّ: {لا يكلّف الله نفساً إلا ما أتاها}.
ومن ثَمّ نفهم أن التهجّد عبادة فردية، يختلي فيها المرء مع ربّه وقتما شاء في ظلمات الليل، حيث الهدوء والسكون يناجيه ويدعوه بما شاء من الدعاء الخاصّ والعامّ، حيث لا يراه أحدٌ من البشر، وحيث لا شبهة تعلقُ بالنفس من الرياء والتباهي بالصلاة في هذا الجامع أو ذاك.
والأصل في صلاة التهجد أن تُصلّى في البيوت كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة، لِما لها من معانٍ سامية ترقى بالنفس إلى مرحلة من الصّفاء الروحيّ، وتتشابه مع الملائكة الكرام في عبادة الرحمن، فالنبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم كان يصلّي النافلة وحده في البيت حيث لا يراه إلا المولى عزّ وجلّ، وإذا جاء الثُلث الأخير من الليل من العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك أيقظ أهله وشدّ مئزره وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت، وبقي ساجداً راكعاً لله تبارك وتعالى حتى مطلع الفجر، متلمّساً ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
وكانت عائشة رضي الله عنها تنقل المشهد كما هو، فترأف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول له: يا نبيّ الله، لِمَ تفعل ذلك وأنت الذي غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر، {إنا فتحنا لك فتحا مبينا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (سورة الفتح 1-2 )، فيردّ عليها بنغمة الواثق بالله تعالى “أفلا أكون عبداً شكوراً” فهو يبيّن لأمّته أن العبد مهما تقرّب إلى الله تعالى بالنوافل والطاعات فإنه سيظلّ مفتقراً إليه سبحانه محتاجاً إلى هدايته وعونه.
ومن تجلّيات التهجّد أن المسلم كلما كان مختفياً عن الأنظار كانت طاعته أقرب إلى الله تعالى وأخلص، وكلما صلّى في بيته في ظلمة الليل حيث لا أنوار مشعّة، ولا أعين ترصد المشهد، ولا كاميرا هاتف تنقل الحدث، كانت الطاعة أنفذ إلى القلب وأسرع في التقاط صور الانسجام والتوافق مع ما يريده الله تعالى من عبده، حيث التذلّل وإظهار العبودية والبكاء على السيئة، وطلب التكفير عن الذنب والعفو والمغفرة، وحيث إطالة الركوع والسجود والدعاء بما شاء الإنسان أن يدعو به، يتلمّس ليلة القدر الشريفة، ففيها الخير العميم.
ومن مقتضيات التهجد أن يبتعد المسلم في طاعته عن الناس، لأن هذا الأمر بينه وبين الله تعالى وهو يستشرف الأيام الأخيرة من رمضان، فلا يريده المولى عزّ وجلّ أن يلهث وراء أصوات القُرّاء استمتاعاً بأصواتهم، ويترك الاستمتاع بلقاء رب العزة والجلال، ولا يريد منه أن يراه الناس حتى يقال فلان صلّى التهجد في هذا الجامع أو ذاك، فالتهجد ليس استعراضاً للأصوات ولا أمكنة لإظهار الذات، وإنما هو عبادة فردية سنّها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ولم يفرضها عليها، وتأسّى به الصحابة الكرام من بعده والتابعين، وتابعي التابعين والصالحين من هذه الأمة، ولم يرد في الأثر ولا في السّنة أنها صُلّيت جماعة، فلمَ اليوم نصلّيها جماعة؟
وقد ذكر الشيخ العلّامة سعيد بن مبروك القنوبي وغير واحد من العلماء “أن صلاة التهجد أو قيام الليل تُصلّى في الخفاء، والبُعد عن الناس، والأَولى ترك ذلك في المساجد، ولئن سُمح بذلك فلأيام، ويُنبّه الناس بعد ذلك ْأن قيام الليل يكون في البيوت وفي الخفاء، وهو الأفضل والأحسن، لأنه عبادة بينكم وبين ربكم”. فلمَ هذا التسابق في ليالي رمضان على صلاة التهجّد وبذل الأموال للأئمة من أجل إحيائها؟ والحال أن هذه العبادة بهذه الطريقة تكون قد خرجت عن مسارها الصحيح، وخرجت عن الفائدة من سنّيتها وهي الخلوة والإخلاص، فهل تكون صلاةُ التهجّد جماعةً بدعةً؟