2024
Adsense
أخبار محليةقصص وروايات

الخروج من الظلمة (الجزء الثاني)

خلفان بن علي بن خميس الرواحي

يدخل بيته وكأنه أول مرة يدخله، كل ما يذكره أنه تزوج فيه وأنجب به أولاده، كانت حياته في البداية سعيدة وجميلة مع المرأة التي أحبها منذ صغره؛ ولكن الذي حدث في حياته بعد ذلك جعله يفقد كل ذلك، ويعيش هائمًا لا يعطى الحياة أهمية، ولم ينتبه لمرور الأيام .. يبحث عن زوجته التي لم يتعود السؤال عنها منذ سنوات بعد عودته.. يدخل إلى الغرفة وينام دون أن يزعج أحدًا بحضوره، فقد صار غير متقبل من الجميع حتى والده المقعد الذي يتحرك على كرسيه المتحرك نادرًا ما كان يذهب للسلام عليه، وإن حدث يكون سريعًا جدًا، وكأنهما غرباء عن بعض .. تعودت (نورة) على الاستيقاظ باكرًا تصلي الفجر بعد أن تصلي شيئًا من الركعات لله تعالى.. خلال صلاتها كانت تكثر الدعاء لزوجها بأن يعود كما كان.. فهو المحب لها والعاشق الذي كان يغمرها بحبه وعطفه.. لم تكن تنتظر عودته؛ لأنها تعرفه لا يسأل عنها، ولن يهتم بها.. تقف في مطبخها تعد الفطور لأولادها قبل الذهاب للمدرسة وتقدمه لوالده كذلك، وتضع الباقي على الطاولة ربما يمر عليه ويأخذ منه قبل أن يخرج من البيت يجوب الشوارع والطرقات.. يدخل عليها دون أن تحس به عند الدخول، ويقترب منها ويضمها إليه .. لقد فقدت لذتها منذ فترة طويلة ويهمس في أذتها: “أحبك.. فكم أنا مشتاق إليك”. لم تنظر إليه؛ فقد كانت مصدومة من الموقف.. يتركها ويخرج.. تدير رأسها تنظر إليه مع خروجه فلم تستطع الوقوف بعد تلك الضمة.. كل ما فيها ينتفض.. تضع يديها على المغسلة وتأخذ نفسا عميقًا وتقول في نفسها: “ليست هذه حقيقة؛ إنه حلم.. أنا أحلم.. إنها وساوس لا غير”.. ترش وجهها بشيء من الماء ليرجعها لحالتها الطبيعية، ولكن لا بد لها أن تعرف الواقع.. تنهي عملها في المطبخ وتذهب لغرفتها لعل زوجها هناك.

عندما وصل لغرفته أمعن النظر في كل جزء منها.. ذلك السرير الذي اشتراه قبل زواجهما بفترة.. يذكر أنه ذهب هو وهي لاختياره كما اختارا6 كل قطعة فيها. الغريب أن كل شيء كما كان لم يتغير.. كل قطعة في مكانها ما زالت تلمع وكأنها جديدة.
جلس على السرير ومدَّ ظهره فكان جزء منه على الأرض والآخر على السرير.. تعلق نظره في سقف الغرفة وأغمض عينيه لحظة.. دار في فكره ليلة عرسه عندما كان يمسك بيد عروسه ويقودها إلى هذه الغرفة، وعند الباب يحملها بين ذراعيه ثم يضعها على السرير، ويرجع ليغلق الباب، ويعود إليها وهي مطرقة رأسها خجلًا، وكأنه لم يرها من قبل.. يذكر أنه رفع الثوب عن وجهها وأطبق على جبينها قبلة طويلة ثم قال لها وهو يمسك يديها: “كم أنا أحبك” وضمها لصدره.

عندما دخلت لم تجده في الغرفة ولكن الفراش ليس كما كان! لقد نام عليه بكل هدوء.. ثم تذهب إلى السرير وتعيد ترتيبه وتخرج وهي تقول في داخلها لقد: “كنت أحلم !!!”
تواصل طريقها وتدخل غرفة الأولاد وتوقظهم للاستعداد ليوم دراسي جديد.. كانت تهتم بهم كثيرًا، فهي ترى المستقبل بهم.. تغيّر لهم ملابسهم، ثم يتناولون الإفطار، وتعطي كل واحد منهم وجبته ليتناولها خلال الفسحة، ولضيق الحال كانت لا تعطيهم مصروفًا يوميًا ولكن بين فترات، وهذا كان يزعجها كثيرًا.
ترافق ولديها ( أحمد وأسعد ) حتى الباب. أحمد هو الابن الأكبر.. إنه الآن بالصف التاسع والآخر -أسعد- بالصف السادس.. تلوح بيدها مودعة ابنيها، وتعود حتى تقدم الفطور للوالد الذي عادة ما يخرج من غرفته على كرسيه المتحرك، ويجلس على الشرفة يراقب الناس وهي تتحرك لقضاء أمورها اليومية والذهاب إلى الأعمال.. لقد تعرض لحادث خلال عمله فقد معه القدرة على المشي، فظل فترة طويلة بالمستشفى، ولم يكن أحد يتوقع أن ينجو من ذلك الحادث، فمنذ تلك السنوات لم يخرج من البيت إلا لمراجعة الطبيب على فترات متباعدة، وكان ولده بعيدًا عنه ولا يراه إلا نادرًا. تناول إفطاره -الوالد- على شرفته، وضحكت له نورة على غير عادتها؛ فأحس أن هناك شيئًا جديدًا قد حدث، فلم يرغب في سؤالها..

بينما كان الزوج في حمامه يردد بعض من الكلمات غير مفهومة سمعتها نورة من خلف الباب.. وتناول أداة الحلاقة التي ركنت منذ فترة ولم يستخدمها، وبدأ في حلاقة لحيته الكثة.. ملأ المكان شعر لحيته.. ثم قام بجمعه بعد أن انتهى منها.. بحث عن صابون الجسم الذي تستخدمه زوجته، والذي كان يجد رائحته فيها من بعيد. دهن جسمه منه، وبدأ ينظف جسمه من أدران السنوات الماضية.. اتسخ المكان وكأنه كان عاملًا في موقع تجميع النفايات.. أخذ يغتسل ونظر لنفسه في المرآة.. لم يصدق أن من يراه هو نفسه.. لبس ملابسه الجديدة التي أخرجها من الخزانة وتعطر وخرج.

لقد هجر نورة منذ سنوات ولم يجرؤ أن يقترب منها لسنوات طويلة حتى وإن هي حاولت كان يفر منها. وعند خروجه من الاستحمام كانت نورة على السرير جالسة تنتظر؛ حتى تتأكد أن ذلك الرجل كان زوجها.. فتح باب الحمام وخرج رجلا آخر ليس ذلك الداخل عليهم كل يوم.. نظرت إليه فاغرة فاها غير مصدقة ما رأت! “راشد.. هل هذا أنت؟!” لم يتكلم، وتقدم منها ، همس في أذنها.. “كم أنا مشتاق لك!!!” .. نظرت لوجهه ومسحت عليه بيدها في لطف، وهي خجلة وقالت له: “وأنا أكثر منك شوقا”.. مسكت يده وأخذته للشرفة عند أبيه.. وهي تنادي: “عمي.. أتعرف هذا؟”. نظر الوالد وفي عينيه دمعة فرح.. وهو يقول: “إنه راشد.. ولدي قد خرج من الظلمة”.. يحرك كرسيه إليه، ويطلب معانقته.. ظل الوالد متعلقًا في ابنه لدقائق بكى فيها راشد بكاء لم يبكه من قبل.. أخذ أباه معه وجلس بجواره على طاولة الطعام، وبدأ في تناول الفطور..

الكل كان فرحًا في ذلك الصباح، وكأنه يوم عيد.
كان راشد يداعب نورة بنظرات الغزل وهو ممسك بيدها وهي خجلى تنكس رأسها لوجود الأب معهما.. تسحب يدها من يده وتقدم له الطعام وهي مرتبكة لا تعرف ماذا تفعل داخلها.. ترغب أن ترتمي في حضن زوجها الذي افتقدته لتروي العطش الذي أحست فيه أيام الجفاف.. تناول إفطاره واستأذنهم بالخروج قليلًا؛ لكن اليوم لن يكون وحده بل سيأخذ والده المقعد معه. ذهب إليه وقال: “أبي ما رأيك أن نخرج معًا اليوم لتغيير جو البيت وتزور بعض أصحابك”. لم يصدق الوالد ما يحدث، وفي سرعة وكأن باب سجن فتح أمام عينيه، ويصرخ به فرحًا: “هيا بنا..” يدف كرسي والده وهو يمازحه “أتذكر عندما كنت تدفني في عربتي وأنا صغير..؟”. مسك الأب يد ابنه وضغط عليها، وقال له: “الأيام دول.. شكرا لك..”.

وفي الطريق بين المحلات التجارية كان الناس في حالة استغراب؛ فمنذ متى راشد يخرج والده؟! الكل لم يبادر بالسؤال.. هناك رجل معزول عن العالم قد افترش الأرض على بقايا كرتون.. وقف أمامهما رجل وقال: “عمي أبو راشد من هذا الشاب الجميل الذي معك؟!”. رفع الوالد رأسه وقال: “هذا راشد بعينه..” الرجل: “أيعقل أن يكون هذا راشدا؟! بالأمس كانت حالته مثلي وربما أردى وأمر، ماذا حدث له؟ ما الذي غيره؟”. الوالد: “هذا هو، اسأله”. الرجل: “راشد علمني الطريقة السحرية التي جعلتك تتغير هكذا!”، ينظر راشد حوله، ويشاهد علبة فارغة، ويحضرها ويقدمها للرجل، ويقول له: “مثل هذه.. أفرغ كل الطاقات السلبية بها، وتخلص منها، وسوف تعود أفضل مني.. فقط أنت تخلص من كل ما فيك…”. ثم يواصل راشد وأبوه المسير، ودون حديث حتى يصلا عند النافورة ويجلسا في نفس الكرسي الذي جلس به راشد تلك الليلة، وينظر لوالده ويقول له: “أترى هل ذلك الرجل فهم مقصدي؟ وهل سيتغير؟. الوالد: “أنا لا أعرف سر العلبة التي أعطيته إياها، فكيف أحكم بتغييره؟!”. يدخل راشد يده في جيبه ويخرج العلبة منها ويقول لوالده: “لا بد أن تكون نهايتها مثل هذه”.

النهاية

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights