حروف في حقيبة دافئة
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
في كل صباح أخرج إلى عملي وتمتلئ حقيبتي الدافئة بحروف متنوعة، ولا شك أن هناك أحداثا متصارعة ومتجددة في كل ساعة أستشعر وقعها حينما أنظر إلى حقيبتي؛ فأجد حروفي التي حملتُها معي حائرة فيما بينها، أصمت قليلا؛ لعلي أسترق شيئا مما يحدث، لكن.. كعادتها في كل مرة تتجاذب الحديث، وتتحاور فيما بينها، وتعد العدة مكوّنة جعبة من نصوص بسياقات مختلفة تريد بها الذود عما تسمعه وتراه ويستثيرها؛ ومن ثَمَّ تتأثر به، وسرعان ما أفتح لها حقيبتي؛ حتى أجدها أشلاء تناثرت هنا وهناك عندما تماسّت مع أجزاء لها كانت مفقودة في تكوينها، وقد تلاقت بها عائدة من تلك الأحداث التي آلمتها مما رأته من صراعات يومية ونزاعات وقتية؛ مما دفعني إلى مخاطبتها قائلا: أين تلك النصوص السياقية التي كانت في جعبتكن منذ قليل؟! ألم تكن عندكن إرادة للدفاع عن أشياء لم تعجبكن في أحداث جذبت انتباهكن ورأيتن أن عليكن واجبا نحوها؟!
وفي تلعثم.. أجابني حرف من تلك الحروف الحائرة قائلا: بعدما فتحْت لنا حقيبتك الدافئة خرجنا إلى الفضاء المطلق، واستنشقنا هواء لم نعتده من قبل، وكنا نظن أنك قيّدت حريتنا من خلال بقائنا داخل الحقيبة، وكنا نعتقد أننا بإمكاننا أن نؤثر فيمن حولنا من خلال نصوص سياقية متوازنة متراصّة، ولكن بعدما التقى بعضنا بجزئه المفقود؛ تبين لكثير منا أن ثمة ضبابا ظل عالقا بأفكارنا حتى اجتمع بعضنا ببعضه، ونَقلت لنا تلك الأجزاء واقعا خارجيا كنا في غفلة عنه، وأن من ينظر إلى تلك الأحداث فسيرى أنها شبكات متداخلة قد تجعلك حائرا أمامها؛ فهي معادلات معقدة إن حاولت فك شفراتها أخذتك في غياهبها بلا رجعة..!!، ونحن بعدما استجمعنا قوانا، واجتمع بعضنا ببعض قلنا: الآن أدركنا قولك لنا كثيرا عندما كنا نهمّ بالانطلاق كلما فتحت حقيبتك، وأنت تقول لنا: (لم يحن الوقت بعد، فلنصبر؛ فبيئة دافئة تنمو فيها خير من فضاء حر يهوي بك)، حقا، إن البقاء في حقيبتك الدافئة لهو خير مكان لنا الآن، وإن كنا تصارعنا فيما بيننا فهو من أجل المحاورة التي لم ندرك أبعادها جيدا، وسنظل حروفا حائرة نتبادل أطراف الأحاديث فيما بيننا، وليتنا نبقى هكذا، ونُترك هكذا..!!
لست أدري.. لِمَ لمْ ألتفت من قبل إلى قراءة ما بين السطور عندما كنت أرْقُب تلك الحروف وهي تتذبذب داخل حقيبتي كلما سمِعَت مؤثرات خارجية؟
لست أدري.. ألم يكن من الأفضل متابعة تلك الحروف والعمل على تنميتها خاصة أنها نشأت في بيئة دافئة بدلا من استثارتها من خلال تكرار فتح الحقيبة؟
لست أدري.. أليس هناك دور فعال وكبير لتلك الأجزاء الخفية التي تطايرت بعيدا عن حروفها الأصلية، وبعد عودتها إلى أحضانها غيّرت أفكارها، وهدّأت من روعها، ولملمت شعثها، وكأنّها قُبلة الحياة!!
عندئذ قلت في نفسي: يا لك من حروف حائرة ومحيّرة في حقيبة دافئة!!