2024
Adsense
قصص وروايات

قصة: كتف لا يميل (الجزء الثاني والأخير)

بلقيس البوسعيدية

بعد ثلاثة أشهر من المعاناة والصراع الطويل مع المرض؛ مات والدي في إحدى جلسات الغسيل موتاً بطيئاً. كان من الممكن أن يحتمل الألم بالأمل لنهاية معاناة لم يشعر بها أحد سواه، ولكن ألمه كان يزداد بمقدار إدراكه أن احتمال شفائه بلا جدوى؛ حيث كانت ملامحه تفقد رونقها رويداً رويداً بعد كل جلسة غسيل، وذلك كان قاسياً على الجميع، وكأن ملك الموت كان ينتظر في كل جلسة قضاء الله ليقبض أنفاسه. كان موته فاجعة ألمّت بنا جميعاً، وخاصة أنا، فبعد وفاته بدأتْ نوبات الخوف تزلزلني، كان الخوف من المجهول يتملكني، بدت الحياة بعد رحيله في عيني كبيرة ومهيبة أكبر من أحلامي المتواضعة، كان خوفي يحرمني من النوم، لم يكن التأقلم على العيش من دونه سهلاً في البداية، فكنا نفتقده كثيراً على طاولة الطعام، وفي أوقات الصلاة، وفي زيارات الأهل والأقرباء. استمررْنا بالعمل في الحقول؛ لكي نستطيع توفير ما يلزمنا من مأكل ومشرب، الأشغال الكثيرة التي أصبحت على عاتقي؛ جعلتني أفقد رغبتي في مواصلة الدراسة، ضاع أملي في مواصلة تعليمي، ولكن أمي أصرّت على ذهابي إلى المدرسة، كانت ترى الأمل فيّ، الأمل الذي فقدته أنا برحيل والدي، لم أستطع أن أخيّب ظنها بي، فعدتُ لمواصلة الدراسة، ولكن أخي (أنس) لم يفعل، ولم تصرّ أمي عليه بذلك، فقد كانت تحتاج إلى وقوفه بجانبها دائماً، فهو الرجل الوحيد في عائلتنا، وهكذا كنت أذهب إلى المدرسة صباحاً، وفي المساء أعود لأعمل في الحقول بقدر استطاعتي.

ما زلتُ أذكر تفاصيل ذلك اليوم وكأنه البارحة، حينما عدتُ من المدرسة بعد ظهر يوم الإثنين فوجدتُ الناس مجتمعين أمام منزلنا، وكانت تبدو على وجوههم جميعاً علامات الحُزن والفزع، كانوا يحدّقون بي بدهشة غير مفهومة بالنسبة لي، بحثتُ بعينيّ عن أخي (أنس)، فوجدته يجلس على الدرج، بدنه يرتجف وأطرافه ترتعش، اقتربت منه وقلت له بنبرة مشحونة بالقلق:
“ماذا حدث؟ ما لهم هؤلاء الناس ينظرون إلينا بهلع؟”
ظلّ صامتاً وكأنه لم يسمع ما قلت له، ثم أردفت قائلة بصوت مرتجف:
“أنس، ما بك يا أنس؟ ماذا حدث؟ أين أمي؟ أين هي أمي؟”.
ظل يحدق بي وعيناه مغرورقتان بالدموع، ووجهه متكدر، ثم قال أخيراً بصوت مخنوق وكأن حجراً سدّ عليه منافذ الهواء: “أمي..، إن أمي..”
لم يكمل كلامه وارتمى بين أحضاني وأخذنا نجهش بالبكاء، نظر الناس إلينا، نهضتُ وأردتُ أن أصرخ في وجوههم: “لماذا أنتم هنا؟ ما بكم تحدقون بنا هكذا؟.”
لكنهم ظلوا يحدقون بنا ولا يقولون لنا شيئاً، وعلى وجوههم علامات الحزن، الحزن الخفي، إنها لا تُرى، أما أنا فرأيتها، أحسّ بوجودها، ثم فجأة سمعت من يقول: “اطلبوا لها الرحمة والمغفرة، إنا لله وإنا إليه راجعون.” وعندئذٍ أدركتُ أن أمي قد رحلت، أخذ (أنس) يجهش بالبكاء، أما أنا فبقيت صامتة جامدة في مكاني كصخرة ضئيلة صمّاء، لم أبكِ، حَرمت نفسي لذّة البكاء حينما تذكرتُ ما قمتُ به في ذلك الصباح الباكر قبل خروجي إلى المدرسة، لقد تركتُ أنبوب الغاز مفتوحاً، لم أحكِم إغلاقه، لقد قتلتُ أمي، قتلتها وهي نائمة، تسرّب الغاز وتنفّست رائحته، ما أدى لاختناقها، لم أجرؤ على أن أقول ذلك لأي أحد، ولربما أنني لم أجد صوتي لأقول ذلك الأمر العظيم والخطير، لقد ارتكبتُ جريمة، لقد كنتُ السبب الوحيد في موت أمي، هكذا أحسستُ وما زلت.

بعد موتها داهمتني حالة من الحزن الشديد، لقد بعثرني غيابها، لم أطق الحياة، ولم أستطع تحمل تأنيب الضمير، تمنيتُ الموت، لكنني تمسكت بالحياة من أجل أخي (أنس).

تأقلمنا بالتدريج مع صقيع غيابهما، أمي وأبي (رحمهما الله)، اعتمدنا على بعضنا بعضا، كبرنا ولم نحتج لأحد، وأصررْت أنا على أخي (أنس) بأن يكمل تعليمه.

مضت سنوات الدراسة كلمح البصر، مضت مغلفة بأحلام العمر وطموحات المستقبل، بأن أكون معلمة، وبعد التخرج انتظرت الإعلان عن قبول معلمات جُدد، وعلى الفور تقدمتُ إلى الاختبارات، ورغم حصولي على نسبة ٥٠٪ فقط في الاختبار الأخير؛ فإنه تم اختياري للالتحاق بالوظيفة، لقد تحقق حلمي أخيراً، وأصبحت اليوم معلمة بإحدى مدارس المدينة، بينما أخي أنس تخرج مهندساً معمارياً في جامعة مرموقة.

هنا وفي وسط هذه المدينة الساحرة تعرفتُ على زوجي (سند)، وأحببنا بعضنا بعضا حبّاً حقيقياً نقياً، وجدته رجلاً لطيفاً، وسيماً رغم لون بشرته السمراء، بشوش الطلة، أسود العينين، قاتم اللحية، نحيف الجسد. كان حبنا سريعاً كومضة برق، كسقوط نجم، لا أدري متى -تحديداً- أحَبّ كلّ منّا الآخَر، لكن ما أعرفه هو أننا أحببنا بعضنا في اللحظة الأولى التي التقينا فيها في منزل عمه (محسن).
العمّ (محسن) هو صاحب الشقة الصغيرة التي استأجرها أخي حينما جئنا إلى هنا، فهو من حكى لنا عن قصة (سند) قبل أن نلتقي به، أخبرنا كيف فقد والديه في حادث سيارة قبل ثماني سنوات، وأخذ العم (محسن) على عاتقه مواصلة دراسة (سند)؛ حيث كان يدرس الفيزياء في جامعة خاصة عندما وقع حادث والديه، وحتى العم (محسن) له من الفقد والحزن نصيب؛ لأنه فقد زوجته وأولاده بحادثٍ أليمٍ لم ينجُ منه أحد إلا هو.
ظلا يعيشان وحيدين تحت سقف واحد، إلى أن جئنا إليهما وملأنا حياتهما حياة، اجتمعنا وجرحُنا واحد، وفقدُنا وعزاؤنا واحد، ساقتنا الأقدار للاحتكاك ببعضنا، تصادمنا، تآلفنا، وانصهرنا، ويا لمفاجآت الأقدار العجيبة!

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights