يُتْم الفَقد ويُتْم الرّضا
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
تتعالق المعاني اللغوية لكلمة “يتم” في (الفقد والانفراد)، فقد يفقد الإنسان أباه وهو لم يبلغ الحلم، فيصبح يتيما، ومن فقد أمه كان عَجِيّا، ومن فقدهما معا كان لَطيما، وإذا فقد الحيوان أمه يكون يتيما، وفي كل فقد.
ولأن في اليتم ضعفا؛ فقد أوصى ديننا الحنيف بالاهتمام باليتيم وبالمحافظة على ماله، وبالإحسان إليه، فقال الله تعالى:” وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”. (الأنعام من الآية 152).
ويقول أيضا:” كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ”. (الفجر17)، ويقول كذلك:” فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ”. (الضحى 9).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما:”وَأنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بيْنَهُما شيئًا”. (البخاري: 5304).
وهذا كله يندرج تحت يتم “الفقد” الذي لا مناص منه، ولا دخل للإنسان فيه؛ فهو مقدر من قِبل الله تعالى، ومكتوب على من عاشه، ولا نسهب الكلام في هذا المعني؛ فهو واضح جليّ.
لكن النوع الثاني من اليتم وهو يتم “الرضا” هو ما يغفل عنه كثيرون؛ لأنه مثل الأمراض السارقة التي تسرق الأعمار وأصحابها لا يدركونها ولا يستشعرونها ولا ينتبهون إليها، ويرون أعمارهم تسلب منهم وهم عاجزون عن معالجة أنفسهم، أو عرضها على طبيب يداويها، وأنّى لهم هذا؟! فقد حُرموا خيرا كثيرا!!
وقد أصبحت مجتمعاتنا ومع التطور التقني ومستجدات العصر مبتلاة بهذا المرض كثيرا؛ لأن مخالبه متشابكة، وطرقه متشعبة، وإذا استفحل من أحد ضل مسالكه، ينمو سريعا دون أن يجاريه أحد أو يدركه، وينخر في جذور الأفراد والأسر؛ فيعمل على قطع أواصر المحبة والوصال، وينهش بنيان المجتمعات كالمرض العضال، ويهدمها ويفتك بها كالإعصار.
حقا، مسكين أنت.. يا من أُصبت بهذا المرض، فقد تُفقد كل شيء حولك وأنت لا تدرك، فلم تُصبح فاقدا بل مفقودا؛ مفقودا يوم أن غبت عن نفسك؛ ففقدت معاني الرضا، ومع الوقت ستصبح نسيا منسيا.
يتم أنت.. يا من ظننت أنك -فقط- من تدرك خبايا الأمور وغيرك لا وجود لهم؛ وتعاليت عليهم، وتنكرت لهم ولأفضالهم يوما ما.
يتم أنت.. يا من فقدت ثقتك بنفسك؛ فأفقدتك ثقتك بغيرك ممن حولك، ولم تعد قادرا على التعامل باطمئنان مع نفسك ومع غيرك؛ فليس لك موضع أمان.
يتم أنت.. يا من عشت في نفسك، ولم ترَ من حولك، ولم تعِ الدرس جيدا، وكم من مرات عديدة حانت لك فرص كثيرة لمراجعة ملفات قد تغير مجرى حياتك، وأنت لم تكترث بذلك، وظللت كما أنت!
يتيم أنت.. يا من نظرت إلى ابتلاءات الله -عز وجل- لك، فجزعت..، ولم تصبر على ما أصابك؛ فقد يكون الابتلاء لحكمة لا تعيها، وقد يأخذ منك الله ليعطيك، وقد يحرمك ليهبك ما لم تتوقعه، وقد تكره نفسك شيئا فيه كل الخير لك، يقول الله تعالى:” فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيْهِ خَيْرًا كَثِيرًا”. (النساء من الآية 19)، فقط، ثق فيما عند الله؛ لتنال مبتغاك بإرادته وقدرته، وهو أعلم بك وبما يتسق معك، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى:” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”. ( الملك الآية 14).
ارضَ بما أعطاك الله، وارضَ بما قسمه الله لك، وكن ذا قلب راضٍ تمتلك كل شيء؛ فأنت قد اصطفاك الله، واختارك لتحمل قلبا نقيا طاهرا محبا الآخرين، فاحمد الله تعالى، واشكر له فضله وعطاءه.
وختاما.. دعوة من القلب لكل قلب.. نبدأ معا نتعرّف قلوبنا.. نقترب منها.. نتعايش معها.. ندرك أبعادها.. لا نريدها أن تكون سارقة الأعمار، ولنملأها بالرضا كل الرضا، وكفى بنا فقدا…، فمن عاش منا يُتْم الفَقد فلا ينبغي له أن يعيش يُتْم الرّضا.