قصة … كتف لا يميل ( الجزء الأول)
بلقيس البوسعيدية
أستيقظت فجرًا على صوت المطر الغزير وارتطام قطراته بنافذة الغرفة، ينهمر المطر بغزارة هذا الشتاء كما اعتدنا عليه دائما، تتقاذف الرياح حبات المطر وتهدر في جميع أرجاء مدينتنا، أيقظت زوجي (سند) ليشاركني متعة هذه اللحظات الدافئة، فتحنا النافذة ووقفنا نصغي لعزف المطر وتراقص الأشجار الخجلى، امتلأت صدورنا بصفاء هذه اللحظات التي جعلتني أعود بذاكرتي إلى الوراء سنوات طويلة، إلى مسقط رأسي ومهد طفولتي (قرية يافع)، هناك حيث كبرت وترعرعت بين التلال والأشجار والأنهار العذبة، حيث المكان الذي يهز الكيان ويحرك الأركان، إنني دائمة الحنين إليها، إلى القرية التي علمتني الكثير وأخذت مني الكثير أيضا، رغم عيوبها إلا أنها كانت قرية جميلة، كان يكسوها اللون الأخضر من كل ناحية، فهناك الموز وأشجار الليمون، والنخيل التي تحمل التمر بكل أنواعه. في الصباح ترى أهل القرية رجالًا ونساء وأطفالًا يذهبون إلى الحقول ويجرون وراءهم الآمال والأحلام البسيطة، كانت أحلامهم بسيطة كحياتهم تماما، وقلوبهم واسعة ونقية كوسع ونقاء سمائها، حتى أنا كنت أذهب في كل صباح إلى الحقل التي كانت تملكها العائلة، كنت أرعى الأبقار في الصباح وأعود مساء فأحلبها وأحمل اللبن إلى والداي وأخي توأمي (أنس). كانت تسليتي الوحيدة هي رعي الأغنام في المروج، فقد اعتادت يدي على إلقاء الحجارة، واعتاد جسدي الهزيل على الاستحمام بضوء الشمس الحارقة.
ما زلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم المشمس في عز الظهيرة والذي حذرني فيه والدي من حقل جارنا (أبو محمد)، صاح علي بنبرة جادة: “لا تسمحين للأغنام بأن تقترب من حقل جارنا (أبو محمد)؛ فحقله مرشوش بمواد سامة.”
في ذلك اليوم تحديدًا داهمني النعاس وغفوة حين كنت مستلقية على صدر العشب الناعم إلى جانب القطيع، وحين استيقظت من غفوتي على صوت نعيق الغراب وجدت الأغنام ترعى في حقل الجار (أبو محمد)، هرعت وأخرجتها وأنا أتذكر وجه أبي وهو يحذرني من عدم الاقتراب من ذلك الحقل المسموم، ولكن ما أن مرت بضع دقائق حتى بدأت الأغنام تتلوى وتقع أرضًا وهي ترفس بقوائمها في لحظات احتضار؛ رحت أصرخ وأنادي الناس ليمدوني بالمساعدة، هرع أبي ورحنا نحقن الدواء حقنًا في أفواه الماعز، لم أتمالك دموعي وأنا أسمع أنفاس الأغنام تضيق وتحتضر، كانت أمي تلطم بيديها على صدرها ورأسها وهي تردد “لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.” كان يومًا رهيبا، أفلحنا في إنقاذ بعض الأغنام، لكن أغلبها نفق.
بعد ذلك اليوم الرهيب توقفت عن رعي الأغنام برغبة مني، فضلت الذهاب إلى المدرسة بدلًا من ذلك، لم تكن توجد في قريتنا سوى مدرسة واحدة فقط، (مدرسة الأنوار الابتدائية للبنين)، وكان التدريس يقتصر على الذكور دون الإناث، فوقتذاك لم يكن للتعليم أي قيمة لدينا، ولكن بعد خمس سنوات من تأسيس المدرسة فتحت أبوابها للإناث أيضا، وضمت المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، وعرفت باسمها الجديد (مدرسة الأنوار للبنين والبنات)، تضم الأولاد في الصباح والبنات في المساء.
لطالما كنت أتساءل دائما: “لماذا لا يوجد في قريتنا سوى مستشفى واحد فقط، ومدرسة واحدة؟!، لماذا لا توجد مواصلات من بعد المغرب؟!، لماذا لا توجد أعمدة كهرباء في قريتنا؟!، لماذا لا يوجد اهتمام بهذه القرية الهادئة؟!.”
وعلى الرغم من كل تلك العيوب إلا أنها ظلت قرية جميلة في عين نفسي.
كنا عائلة صغيرة مترابطة، مبنية على الحب والاحترام والإخلاص والثقة، بالطبع كانت تجيء علينا أيام نعيش فيها وسط خلافات طبيعية، لكنها لم تفلح أبدًا في التفرقة بيننا. أذكر بأنني قد عشت فترة من القلق الشديد والحزن العميق حينما مرض والدي مرضًا شديدا؛ ألزمه البقاء في المستشفى لأيام طويلة وثقيلة على روحي، وبعد فحوصات دقيقة أفاد الطبيب بأن أبي يعاني من فشل كلوي مزمن، وبحاجة ماسة إلى غسيل كلوي ثلاث مرات أسبوعيا، وتستغرق كل مرة ست ساعات، كما أنه بحاجة إلى نظام أكل وشرب دقيق. كانت تكلفة العلاج عالية إلى حد لم نتخيله، إذ كانت جلسة غسيل واحدة تكلف مقدار ما نحصل عليه من مال في نصف شهر، فضلًا عن الأدوية والنظام الغذائي الخاص، فثلاث جلسات غسيل كلوي أسبوعيا، كانت أمرًا شاقًا على والدي. بعد مرور أيام قليلة ثقيلة؛ أصابنا اليأس والقنوط، وحل التشاؤم محل الأمل، كانت النقود التي بحوزتنا تتناقص يوم بعد يوم، وأبي ما يزال بحاجة ماسة إلى عناية الأطباء ومواصلة العلاج، ولكن أمي تمكنت من سداد تكاليف العلاج بعدما قامت ببيع سوارها الذهبي، الذكرى الوحيدة لها من والدي، فكانت لتلك القطعة ذكريات مميزة عند أمي، فقد منحها لها والدي في أول يوم من زفافهما، وأوصاها بالاحتفاظ بها حول جيدها كتذكار منه. أنا وأخي التوأم (أنس) كنا مجرد مراهقين في ذلك الوقت، لم نتجاوز السابعة عشرة من العمر، كنا متشابهين في الشكل والملامح، كان لنا نفس الطول والثغر والأنف والوجه ولون البشرة، أما العين سماوية والشعر بني اللون، كنا متشابهين في أشياء كثيرة، متشابهين في اللبس والسلوك، متشابهين بما يكفي لأن يفهم أحدنا الآخر بسهولة.
بعد مرض والدي كل المسؤولية وقعت على صالح أمي، تحملت أن تحل محل أبي وأن تحقق رغباتنا-أنا (وأنس)- خلال غيابه. لقد عملت ليل نهار في حقلنا بلا ملل أو كلل، بذلت أقصى جهدها لكي تؤمن احتياجاتنا داخل البيت. كانت شمس النهار في قريتنا حارقة، لاسعة، وكان ثوب أمي في كل مرة يتبلل من سيل العرق الغزير لدرجة إمكانية عصره، كانت صبورة ونشيطة جدا، تعمل طوال اليوم دون تذمر، تستيقظ فجرًا وتعدنا لكي نذهب إلى المدرسة وتخرج بعدنا للعمل في الحقل، وعند غروب الشمس تعود للمنزل، وتبدأ في أعمال المنزل وحياكة السجاد حتى ساعة متأخرة من الليل.
تلك كانت المرأة الأولى التي أحس فيها بعظمة أمي ومدى قوتها وصلابتها، أعتقد أنه لم يكن في قريتنا أي شخص ولو حتى رجل استطاع أن يتفوق على أمي في العمل وقتذاك. بعد أيام شاقة، بدأت علامات التعب والإجهاد تظهر بوضوح تام على وجه أمي، وعلى جسدها الهزيل، إرهاق وتعب وشحوب كسا وجهها، لم نحتمل أنا وأخي أن نراها تضعف أمامنا يومًا بعد يوم؛ عندها قررنا أن نساعدها بما نقدر عليه، وزعنا أعمال الحقل بيننا… أنا (وأنس)، وقد اتفقنا على أن أنجز أنا الأعمال في الفترة الصباحية وأن يتكفل هو بالعمل في الفترة المسائية، وهكذا بدأت أستيقظ كل يوم على أذان الفجر، أصلي ثم انطلق كعصفور الصباح إلى الحقل البعيد، أعمل بنشاط وجهد حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، ثم أعود إلى البيت، أستحم وأرتدي ملابس المدرسة، ثم أخرج من الباب في ذات اللحظة التي يعود فيها أخي من مدرسته.
للحديث بقية، سوف نكمله في الجزء القادم بحول الله تعالى.