مقامة((العدو السابع!!))
د. أحمد محمد الشربيني
حدثنا الدكتور أبو منصور حكيم (صافور)، اللغوي الأديب الوقور، أنه مر ذات ليلة قمراء بجمع من الشيوخ والعلماء والزجالين والشعراء وأرباب المعاشات الحكماء، الجالسين كعادتهم على أريكتهم الغراء بعيد صلاة العشاء يومي الخميس والثلاثاء تحت سقيفة وريفة لمضيفهم الأربعيني ذي الطلة الظريفة الأستاذ”أبو شريفة”؛ حيث كان دأبهم احتساء الشاي الخفيف، وتذاكر ماضي الشباب الوريف…، والتباحث في شئون الحياة وصروفها، ومناقشة الأشعار ونقدها، وإسداء الحكم والأمثال والتندر بفضائل الأعمال وتدبر الأخبار والأحوال… رغم صقيع الشتاء والأوحال، فقمت بالسلام والتحية للنخبة الزكية، وتوسطت جلستهم الندية، وتجاذبنا الحديث بنفس رَضِية؛ حيث تداولنا الحوار بقلب معطار وعقل مدرار…ووسط هذا الغمار مر بنا شخص أعرفه ويعرفني، لكنه لا يروقه لقبي ورِدني أو شعري وفني، فقد نزل من سيارته قريبًا مني، فصافح الجميع ثم تجاهلني… فتعجبت من تلك البادرة المنكودة واللفتة الفاترة المقصودة…فقلت بصوت يسمعه خليلي وظئري وأن أدير للمتكبر قفاي وظهري:
إن المكارمَ أخلاقٌ مطهرةٌ
**فالدين أولها والصدق ثانيها
والصبر ثالثها والعلم رابعها
**والجود خامسها والعرف ساديها
والبر سابعها والحلم ثامنها
**والشكر تاسعها واللين عاشيها
والنفس تعلم أني لا أصدقها
**ولست أرشد إلا حين أعصيها
والعين تعلم من عيني محدثها
**من كان من حزبها أو من أعاديها
عيناك قد دلتا عيني منك على
**أشياء لولاهما ما كنت تبديها!!
فأغمد غروره الفياض وتصحر منه الكبر وغاض…وعلى الفور اختفى، ولا أثر لضوء فانوسه يُقتفى!!!
وبعد أن غرب شبحه عن المكان وتوارت سيارته عن العيان… تصنعت عدم الاكتراث بما فعل هذا الخراص المُلتاث الذي كان ذات يوم من أوضع الناس في المعاش والأثاث، بيد أن جليسًا من الحكماء تدارك الموقف بدهاء فألفيته علي عجل يتحدث ويفيض ويتندر بلسانٍ عريض باطنه التلميح والتعريض في غير غَيبة أو قدح غريض لمُحدث النعمة المَريض..!!
فقال: لا عليك يا دكتورنا الأصيل من هذا الصنف الكليل ذي الأصل القليل… فأنا يا ولدي أكلَ عليَّ الدهرُ وشرب، وكم من أناسٍ عاملتهم بقلبٍ نقي وسيع، فلم أنل منهم إلا كل شر وضيع وجحودٍ شنيع!!! فقلت بنبر ٍ عاتب وصوت لاذب:
إن هذا الرجل الذي أغناه الله بعد عوز وفقر بعد أن كان يسكن كوخًا يشبه جحر ضبٍ في جُحر ففاح منه الكِبر والفخر… إذا مر علي بسيارته لا يُلقي السلام، ويصعر خده بلا اهتمام، كأنه قارون الأنام فما سر هذا الحقد الزؤام؟!!
فوالله ليس بيني وبينه عداوة، ولم تكن بيننا وشيجة صداقة أو خبيئة جفاوة، ولم يذق مني مرارة بعد حلاوة، وأنَّى له مِني وسِنه ليست في مثل سني، فلم يصادقني يومًا أو يزاملني؟!!
فأجابني الشيخ الحكيم بصوت رخيم ونبر رحيم وقال:
يا ولدي، أعداؤك من البشر ستة:
(١) من عاداك؛ لأنك فى ظلمه وضيمه لا تباريه.
(٢)من عاداك؛ لأنك فى خطله وحمقه لا تجاريه.
(٣)من عاداك؛ لأنك فى كبره وصلفه لا تداريه.
(٤)من عاداك؛ لأنك فى حقده ومكره لا تباريه.
(٥)من عاداك؛ لأنه فشل فيما نجحت فيه.
(٦) من عاداك؛ لأنك في غشه وقبحه وفجره لا تحابيه.
فاحذر من الأعداء كل ظالمٍ متجبرٍ، وكل أحمق حاقدٍ متنمر، وكل فاشلٍ غاشٍ متكبر… وإياك والظلم والظالمين، ولا تركن لأكلة الحقوق الطامعين.
وخذ هذا الرحيق النفسي من قوله عز وجل في الحديث القدسي :
((وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأي مظلومًا فقدر أن ينصره فلم ينصره وعزتي وجلالي لأدبرن الأمر لمن لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل)).
وما أن سكت الشيخ الحكيم عن النصح القويم؛ حتى أجابني باندهاش رجل باش شارف على سن المعاش بحديث عذب يؤرجه ودٌ وحب، قائلاً:
يا بني العالم، دعك من هذا الأجوف الهائم، ولا تظنن أن تلك المعاداة تنال من رفعة التقاة وعزة العلماء الأباة؛ فالعداوة غريزة إنسانية جبلت عليها الأنفس العدوانية الشهوانية لتبصرنا بمزايا أخلاقنا ومكامن عزنا،
فعن علي بن أبى طالب – كرم الله وجهه-:”إن لم يكن لك أعداء فاعلم أنه لا قيمة لك في الحياة”، وقال الإمام الشعراوي- رحمه الله- “إن لم تجد لك حاقدًا فأنت إنسان فاشل “؛ ولم لا؟ ونحن دومًا نرى الناس يحدقون في ذوي المكانة، ويزرون الفاشلين وأولي المهانة، ولله در أبي الأسود الدؤلي حين قال بأمانة:
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ
**فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها
**حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ
وَالوَجهُ يُشرِقُ في الظَلامِ كَأَنَّهُ
**بَدرٌ مُنيرٌ وَالنِساءُ نُجومُ
وَعَجِبتُ للدُنيا وَرَغبَةِ أَهلِها
**وَالرِزقُ فيما بَينَهُم مَقسومُ
وَالأَحمَقُ المَرزوقُ أَعجَبُ مَن أَرى
**مِن أَهلِها وَالعاقِلُ المَحرومُ
ثُمَّ انْقَضَى عَجَبي لِعِلميَ أَنَّهُ
**رِزقٌ مُوَافٍ وَقتُهُ مَعلومُ
ثم عقّبّ شيخٌ جليل على سالفه النبيل، وقال: إنه برغم ما يكتنف العدواة من قلق وغُمة فإنك لا تعدم منها فوائد جمة تاجها الرفعة وعلو الهمة، فقلت للشيخ بهي الطلة، أفصح يا ذا العمة.
فقال: إن عدوك يظهر لك كل نقاط ضعفك لتقويها، ويزيح اللثام عن ثغراتك لتجبرها وتداريها، فيبرز قصورك لتقومه، ويكشف شروخ كيانك لترممه؛ فهو بمثابة الناصح الكئود والواعظ اللدود؛ ومن ثم تخرج للناس في أبهى طلة وأنقى خلة، فإن لم يواجهك أحد بالنقد والكلام فلن تتقدم إلى الأمام!! ولكن، اعلم يا سليل الأولياء أن هذه ليست دعوة للعداء، بقدر كونها دعوة للتمعن في حكمة الأشياء، والتبصر بمغانم المعارك والأعداء!!!
فلا ملجأ لك من هؤلاء إلا بطاعة الله؛ فأكثر من الاستغفار والدعاء، واعلم أن رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية لا تترك، فاترك ما لا يدرك، وأدرك ما لا يترك!!!
وانظرن بعين الإنصاف تجد الناس على ضروب وأصناف جبلت على الاختلاف لا الائتلاف.
ولله در العالم الأمين صاحب كتاب إحياء علوم الدين عندما نقل عن الخليل قوله الرصين:
الرجال أربعة :
– رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالِم فاتبعوه.
– ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه.
– ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه.
– ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فانبذوه.
فاحذف الجُهَّال من قاموس وعيك، ولا تجعل للأعداء نصيبًا من حروف صبرك وطموح متنك!!!
ثم دعا الشيخ الفقيه بدعاء وجيه ولفظ تقي نزيه:
اللهم قنا شر الأعداء والطغام، ونجنا من المفسدين وآكلي الحرام بعزتك التي لا ترام وقوتك التي لا تضام، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم جنبنا وساوس الشيطان، وبطش كل ذي سلطان، وقنا داء الكرونة والسرطان.. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، وعلم لا ينفع، وبطن لا تشبع، وشاك لا يُسمع، ولص لا يُردع، وحاسد لا يهجع، وبصاص لا يرتع…. اللهم في هذا العام الجديد ارزقنا الرشاد والتسديد والعيش الغَريد، وجنب أوطاننا الغلاء والوباء والتشريد..ونعوذ بك من قوت يومٍ ممنوع وحلم بغدٍ مقطوع ونابغة من قومه منزوع، ورويبض على الرؤوس مرفوع!!
هنالك قاطعه مضيف الصُحبة الظريفة، أبو شريفة وقال: شيخنا، يا ربيب الفطنة والكياسة، خل عن دعائك التعريض والسياسة…!! ثم ما لبث في دهاء أن أكمل الابتهال والدعاء، رافعًا أكف الضراعة إلى السماء: اللهم أصلح أزواجنا الناشزات، وقنا شر السليطات والعانسات العابسات، وكل نازلة ونائبة وليلة خائبة وجفوة واجبة وفضيحة راهبة وضربة صائبة.. ولم يكمل صاحبنا الدعاء إلا على وقع ضوضاء كالعواء أعقبها فاجعة نكباء!!!
؛ إذ تساقط علينا (جَردل) كالإعصار بمياة سيلها مدرار ولسعُ برودتها بتار… يشيعها صوت جهوري هدَّار نبره غليظ غدار….؛ فتطاير جميع الصحب والأنفار كما يفرقُ من القطِّ الفار، ناظرين بدهشة وحسرة وطعنة مُنكسرة إلى ثيابهم وقد بُلِّلت، وحصيرهم وقد شُوهت، وأريكتهم وقد عُطِّلت، وأكوابهم وقداحهم وقد تطايرت فهُشِّمت وكُسِّرت…!!
فنظرتُ في خلسةٍ غير مأمونة إلى أعلى البلكونة لأطالع شمطاءَ مجنونة غدائرها ألوانٌ من حماقة ورعونة تصيح بزوجها وضيوفه بعبارات مأفونة تنضح بذاءةً وعفونة:
آهٍ يا بئيس، يا رفيق إبليس أليست هذه بليلة الخميس؟!!!
قم أيها المعتوه اللعين أنت وشلة المتسكعين من أرباب المعاشات المكسحين…ألم أنهك يا أسود الغرة في كل مساء وغدوة ألا تجتمع بدار الندوة؟!! ….لقد أفسدك هؤلاء الطاعنون الذين فاتهم قطار المنون، فألَّبوك علي بكل وصمة؛ كي تلعنني بكل همة يا عديم المروءة والذمة وناكر المحشي واللحمة!!
فلتغرب عن بيتي بهذه الرفقة واهرعوا صوب القهوة….أو هلم إلي، وكن الآن بين يدي، واصعد في الحال يا ربيب العيال، يا طويل البال؛ وإلا كانت ليلتك صنوفًا من الأهوال والوبال … فأنت بين خيارين وقرارك في دقيقتين، فإما النوم أو الهجر، ساعتها لن تتمكن من صلاة الفجر!!!
فقال المضيف بلسان شعري حصيف:
وجاهلٍ لازمني
**لقيت منه عنتا
كأنما حتمٌ عليه(م)
الدهر أن لا يسكتا
أُنسي به إذا نأى
**ووحشتى إذا أتى
طالت به بَليتي
**يا رب ما أدري متى؟!!
هنالك انصرف الجميعُ واجمين وانقشعوا عن المصطبةِ صامتين… حاشا مضيفهم الشقي المسكين الذي شيع صحبته في التو والحين بجفنٍ حزين ودمع رهين قبل أن يغلق باب بيته رضوخًا على صراخ زوجه وموعد نومه وسجنه…وقبيل الوداع نادى عليه صديق مُلتاع بصوت لا تلتقطه الأسماع: متى اللقاء القريب شاعرنا الرحيب؟ فتمتم بأبيات شعرية ودع بها شلته الشقية مصورًا تلك البلية السُباعية:
إن تسألوا متى اللقاءُ يُجِبكُمُ
**بالدمعِ أن البينَ قد أصخى لها
إنِّي كرهتُ من النسا مخبولةً
**هي نكبتي.. عاف الغباءُ خصالها
وكأن حتفي قد غدا هو حلمها
**حالي أنا في السمتِ خَاصم حالها
رباه لطفًا بالمحبةِ دائماً
**واجعل إلى ثوبِ الجنونِ مآلها
وإذا تمنّت فلتُزيّن دربها
**لغماً يطيرُ محققاً آمالها
إني شقيت بها فبِدْهَا خالقي
**واختم بغازٍ خانقٍ أعمالـها
وما أن انقشع الرفاق عن المكان حتى تغير اللسان، فحط عن الزوجة الهوس والجنون، ونادت بعلها في نبر حنون ولفظ موزون قائلة:
لقد نام جميع العيال وعشاؤك سأسخنه في الحال….ريثما تذهب الحين إلى صيدلية الدكتور فطين ثم عطارة الحاج أمين لشراء علاجك الحصين من الكبسولة الزرقاء والحبة السوداء !!!
هنالك تمتم المضيف الحصيف بشعر ظريف يغلفه همس مخيف:
ومن نكد الدنيا على الزوج أن يرى
**عدوًا له ما من سياسته بدُّ
وأنكدُ منه زوجة لست آمنًا
**لها هل هي الحضن الوفي أم الغِمدُ؟!!