الهروب للهلاك (الجزء الثالث والأخير)
خلفان بن علي الرواحي
نامت ليلتها تلك وكأنها لم تنم من قبل، وكأن هناك حملٌ على كتفيها قد تلاشى. أحست براحة مع الفراغ الذي سوف تعيش به بدون (قاسم) ذلك الرجل الغامض الذي عاشت معه ولا تعرف عن شيئا غير اسمه الثلاثي لا أم ولا أب ولا أهل أو أقارب على مدى السنوات الماضية. كان وحيدا لم يظهر له أحد ولم يذكر يوما أن له أهل في مكان ما .. ذلك الرجل المسن الذي أحضره لم يقل لنا شيئا أو أنه أخفى أشياء عنا .. قاسم لم يكن سيئا لتلك الدرجة كل ما كان يعيبه إدمانه على شرب الخمر -لم يكن يفارقه- لا أذكر أنه رجع البيت يوما إلا وهو مخمور لا يعرف أين كان وأين هو الآن .. نهضت من السرير وذهبت للمطبخ لتعد لها وجبة إفطار لم تكن تعرفها في حياة زوجها أما اليوم فكل شيء موجود .. تفتح الثلاجة وتتناول حبات من البيض وحبات طماطم ومن مكان آخر أخذت بصلا .. سوف تعد (الشقشوقة) .. أشعلت الطباخة وبدأت في تحضير إفطارها .. حملته بعد أن جهز وجلست وحيدة وهي جالسة رجعت إلى ذهنها صورة زوجها قبل أن يتوفى .. عندما رفع يديه وكأنه يدعو، بماذا كان يتمتم؟ ما الكلمات الأخيرة التي قالها؟ هل كانت كلمات التوبة والعودة في اللحظات الأخيرة؟ .. في نفسها تقول: عندما حملته من الأرض لم يكن (قاسم) الذي أعرفه لقد تغيرت ملامح وجه .. كان وجهه منيرا وتجمله ابتسامة لم أرها عليه من قبل .. ربما كانت تلك الكلمات خاتمة طيبة له .. اللهم وسع عليه قبره واجعله روضة من رياض الجنة. طرقات على الباب لم تعتد على سماعها من قبل إلا بعد موته .. تنهض لتفتح الباب .. وتجد عنده رجلا أول مرة تراه .. لم تستطع أن تقول له تفضل لأنها وحيدة في البيت .. تسلم عليه وتعتذر له لعدم قدرتها على إدخاله .. دون أن ترفع رأسها لتنظر في وجه بادرته: تفضل .. ماذا تريد؟ هل من خدمة أستطيع تقديمها إليك؟ سكت الرجل قليلا ثم قال لها: أنا من الأشخاص الذين قاموا بتغسيل زوجك بعد موته. قالت له: جزاك الله خير وبارك الله فيك وجعل ذلك في ميزان حسناتك. رد عليها الرجل: آمين .. ولكن ما رأيته منه يختلف عما سمعته عنه وعرفته. قالت له: وماذا رأيت؟ الرجل: لقد شاركت في تغسيل العديد من الأموات وتكشفت لي الكثير من الأمور خلال ذلك ولكن ما رأيته من قاسم كان مختلفًا .. ذلك الجسد لم يكن لإنسان معاقر للخمر .. لقد كان وكأنه أحد أولياء الله الصالحين .. كله نور ورائحة زكية تفوح منه وابتسامة عريضة لم أر مثلها من قبل. فجئت أسألك؛ هل كان له عمل يقوم به؟ فكرت كثيرًا ولكن لم تجد شيئا كان يقوم به غير شرب الخمر. ردت عليه: لم أره يقوم بشيء طوال فترة زواجنا .. إلا أنه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة رفع يديه وردد كلمات لم أسمعها ثم سقط ميتا .. الرجل: لقد كانت خاتمة حسنة والله أعلم. نسأل الله حسن الخاتمة .. أطلب إليك أمرا؟ خلود: تفضل .. الرجل: لا تبخلي عليه بالدعاء والصدقة فأنهما صلة للميت. يذهب الرجل ويتركها، تفكر في ما قاله من حديث والبشارة التي حملها لها. لقد فرحت كثير لتلك النهاية واطمأنت نفسها لها .. رفعت يديها وقالت كلمات في نفسها .. دخلت بيتها وأغلقت الباب .. لتكمل تناول فطورها وهي سعيدة لزوجها .
مرت أيام العدة على خلود سريعة، لم تحس بها. كان البيت تدب به الحياة خلال ساعات الصباح ويعود للسكون بالليل .. في تلك الفترة أحست بالحياة .. اختلطت بالناس .. تعرفت عليهم .. كونت علاقات أكثر مما فعلت في كل عمرها .. لم تحس بالوحدة .. كل ما كانت تفتقده إخوتها الذين لم يفكروا خلال تلك الفترة بزيارتها والاطمئنان عليها .. اكتفوا بالاتصال بها على فترات متباعدة. تصادقت خلود مع أحد جاراتها تدعى (فاطمة) وأصبحا كالأختين لا يفترقان .. فاطمة حسنة الطباع .. جميلة المعشر .. حسنة الهندام .. كانت دائما تهتم بنفسها .. تجدها أنيقة في ملابسها وعطورها .. من يراها يقول أنها لم تتجاوز الثلاثين .. ولديها أحفاد ليس من جهة واحدة بل من الأبناء والبنات .. مات زوجها منذ سنوات وعاشت لأولادها فقط .. وجدت فاطمة في خلود الطيبة والحب وحسن السيرة فنشأت بينهما العلاقة .. كثيرا ما جلستا معا يتحدثان .. وكل واحدة تحكي للأخرى قصتها .. وجه الشبه أنهما أرملتان والفرق أن فاطمة لديها أولاد وأسرة وخلود وحيدة. في مرة طرحت فاطمة على خلود فكرة الزواج من جديد. لم تلق الفكرة الترحيب منها في البداية ولكن أقنعتها فقد قالت لها: أنت الآن وحيدة ولا أحد يسأل عنك .. وكما يقال الوحدة صعبة .. وما زال في العمر بقية .. فالزواج لك أفضل من البقاء عزباء .. نظرت إليها خلود وقالت: لكن من يقبل بامرأة أرملة ويقدر أن يتزوج امرأة بكر؟ .. ماذا يجعله يتزوجني؟ تقترب منها فاطمة وتضع يدها على كتفها: أنت ما زلت صغيرة وهناك من يرغب في الزواج منك ..
خلود: مستغربة .. ما شاء الله الموضوع محضر من قبل .. ومن يكون؟
فاطمة: هذا رجل من البلدة ذكر لي الموضوع قبل يومين بأنه يرغب في الزواج منك وهو ميسور الحال .. تزوج من قبل ولكنه لم يوفق فقد طلق زوجته وليس لديه أبناء.
خلود: ولكن أنا لا أعرفه وهو لم يرني من قبل .. فكيف يتزوجني دون أن يراني؟
فاطمة : عندما توافقي سوف أحضره إليك حتى تنظرين إليه وينظر إليك .. وسوف أخبر أحد أخواني بالحضور معي.
تنزل خلود رأسها للأسف وهي تفكر في الرد المناسب على العرض الذي قدم لها دون أن تستعد له من قبل فلم يكن يخطر على بالها أن هناك من سيطلبها للزواج بهذه السرعة. صمت من خلود وترقب من فاطمة .. ثم ردت عليها: سأفكر في الأمر .. أمهليني يومًا أو يومين وبعدها سوف أرد عليك. الأمر يحتاج شيئا من التفكير .. زواجي السابق كان سريعا فلا أريد الوقوع في الخطأ مرة أخرى .. زواجي ذلك كان على سبيل الهروب للهلاك .. فقد كنت بين أمرين .. الزواج كان الحل الأهون وعانيت فيه ما عانيت. تنهض فاطمة مودعة لها وعند الباب تقول بها: أنتظر ردك علي وقبول الفكرة هي بداية الموافقة.
دخلت إلى غرفتها وقلبت الأمر في رأسها مرات عديدة .. وحاولت إقناع نفسها بفكرة الزواج لكنها لم تستطع .. تقول في نفسها: لماذا أربط نفسي برجل والآن أنا حرة في بيتي وكل شيء متوفر عندي؟ .. كما أني أحصل على راتب زوجي المتوفى وهو يكفيني وإن كان بسيطا. لحسن حظي أنه لم يفصل من العمل رغم غيابه المتكرر ولكن كما سمعت من البعض أنه كان متميزا في عمله لذلك لم يرغبوا في خسارته فكانوا يرضون بالقليل منه.
قبل انتهاء اليومين تذهب لبيت (فاطمة) وتخبرها القرار بأنها لا ترغب في الزواج وتظل في بيتها سعيدة بما عندها حاولت فاطمة إقناعها بالعدول عن رأيها ولكنها أصرت على موقفها.
“الزواج بالنسبة لي انتهي” هكذا قالت لها وهي تخرج من بيت صديقتها .. ما زالت فاطمة مستغربة من موقف خلود الذي لم يقنعها ولكن ليس بيدها حيلة .. أوصلت الخبر للرجل الذي كان ينتظر الموافقة وسأل الله لها السداد والتوفيق في حياتها.
عادت خلود لبيتها وأغلقت الباب وتمددت على سريرها وتناولت صورة لقاسم احتفظت بها في أحد الأدراج .. مخاطبة الصورة سوف أظل وفية لك مهما كنت ولكن بعد كلام الرجل لي عما رأه سوف أكون عونا لك لتحقق رغبة في الوصول للجنة فقد تقبل الله توبتك وسوف أكفر عن كل أعمالك في الدنيا .. لن أدع عمل بر يلحق لك به الأجر إلا فعلته .. تطبق قبلة على الصورة وكأنها أول مرة تقبله .. وتضعها هذه المرة على الطاولة أمامها فهي تفخر به الآن بعكس ما كانت تفعل .. وهروبها لم يكن للهلاك وإنما كان للنجاة.
النهاية