الهروب للهلاك (الجزء الثاني)
خلفان بن علي الرواحي
بعد محاولات وبذل جهد استطاعت أن تنهض؛ ليس باستقامة كاملة، ولكنها تحاملت على نفسها وبدأت تخطو قليلا. في طريقها تجاهلت وجود ما يسمى بزوجها، دخلت المطبخ الذي ليس به شيء حتى يأكل، مجرد ثلاجة مركونة على الجانب، كل ما فيها بعض حبات البرتقال التي عصرتها الثلاجة .. وهناك في الجزء الآخر قارورة ماء وضعتها لتشرب منها -هو لا يشرب الماء عادة- يحتاج للثلج أكثر من الماء .. تناولت الماء البارد وذهبت إليه وسكبته عليه .. فانتفض من نومه وعادت له الحياة .. يصرخ فيها بأعلى صوته: ماذا حل بك؟ هدفك قتلي بهذا الماء؟ لا يعرف الإنسان النوم في بيته وعلى فراشه .. تنظر إليه وهي تضحك: أي فراش هذا؟ أنت ملقى في الصالة لا تدري منذ متى وكيف وصلت إلى هنا .. انظر لحالك .. -تمر جنبه وتنظر إليه وهو يحاول الوقوف حتى يتحرك من مكان- يمد يده إليها حتى تساعده في الوقوف على قدميه .. لا تبادر هي إلى مساعدته؛ فقط قالت بصوت كله حرقة وألم: لقد ساعدتك كثيرًا ووقفت معك عدة مرات وحاولت إصلاحك ولكن منذ أخذتك “أعوج” .. ينهض متثاقلًا ويرمي بنفسه على كرسي خشبيٍ بالٍ لا يوجد غيره في تلك الصالة حتى القماش الذي نُجِّدَّ به بدأ في التلاشي .. -يمد قدميه ويسند ظهره على الكرسي الذي يصدر صوتًا عند أية حركة يقوم بها- يشبك أصابع يديه معًا ويضعهما خلف رأسه وكأنه دخل في مرحلة التفكير- سكت طويلًا.. وهناك ( خلود ) تنظر إليه وتنتظر ما بعد هذا الصمت ..مرت اللحظات وقاسم على كرسيه جسدًا لا يتحرك، يتمتم بكلمات غير مفهومة وكأنه يهذي بشيء ما .. حاولت أن تقترب منه أكثر ولكن لا تحتمل الرائحة التي تخرج منه .. تعودت عليها ولكنها تكرهها وهي تراقبه، رأته يرفع يديه وكأنه يدعو .. هي المرة الأولى التي تراه يفعل ذلك . منذ أن أخذته لم تره يصلي .. كان صيام رمضان يؤديه مكرهًا ولكن اليوم يرفع يديه بالدعاء .. ابتسمت في داخلها فربما حانت ساعة العودة وسوف يترك الخمر وتستقر حياتهما .. كان هذا بصيص الأمل الذي دب داخلها .. أغمضت عينيها وهي تحلم بحياةٍ جديدة قد يرزقها الله بالأولاد .. -تغرق في حلمها- وتنتبه على صوت سقوط شيء ما .. فتحت عينيها فإذا بقاسم ملقىً على الأرض وقد فارق الحياة .. بدون شعور تحمل نفسها إليه : قاسم .. قاسم .. لمن تتركني .. لماذا تخليت عني؟! تبكي بكاءً حارًا يختلف عن حالها قبل هذه اللحظة .. تأخذه على حجرها وتغمض عينيه الشاخصات في الأعلى وكأنه يرى أمرًا نحن لا نراه .. تحدث نفسها: مع كل خصالك السيئة ولكن كنت الونيس لي في وحدتي لم يكن لي غيرك، إخوتي نسوني ولم يسألوا يوما عني، كان همهم الخلاص مني وبيع البيت.
-تضعه على الأرض بعد أن وضعت تحت رأسه مخدة كانت بجانبها- وتدخل الغرفة وتأخذ الغطاء الوحيد الموجود في البيت وتضعه عليه وتخرج حتى تخبر أحدًا بموت زوجها حتى يؤدى واجب دفنه.
تدخل مجموعة من الأشخاص لدار قاسم والتي لم يدخلها أحد منهم من قبل وعندما شاهدوا الوضع الذي كانوا عليه نظر كل واحد منهم إلى الآخر .. همس أحدهم في أذنِ صاحبه: أين كنا عنهم؟ إن حالتهم مزرية .. لقد قصرنا في حقهم .. يرد عليه بصوت خافت: إنه معاقر للخمر لم يكن يخالط أحدًا من أهل البلدة وحتى إخوان زوجته لم يسألوا عن أختهم منذ أن تزوجت به .. الأحاديث تكثر في مثل هذه الحالات. من الخلف يدخل رجل ينادي في الجميع : هيا بنا لنقوم بواجبه .. يتقدمه بعد أن أدخل النعش الذي سيحمل عليه الجثمان .. يرفع ويوضع ويغطى بذلك اللحاف وهناك نظرات بين الأشخاص الذين قاموا بذلك ولكن دون حديث .. يخرجون به وهناك في الخلف من يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله .. يموت ورائحة الخمر تفوح منه .. كيف سيكون حاله في القبر ؟! أحدهم: لا تحكم عليه .. ربما هناك سر بينه وبين ربه ينجيه .. دع الخلق للخالق.
يدفن قاسم ويقام له العزاء ثلاثة أيام وإخوة خلود لم يحضروا لأداء واجب العزاء ومواساة أختهم .. اكتفى ممثلهم بالاتصال بأخته والاعتذار عن عدم الحضور لارتباطاتهم ومشاغلهم، ومرة أخرى لم يعرض عليها اللحاق بهم والانتقال للحياة مع أحدهم.
في ذلك البيت الخالي جلست تفكر في المستقبل القادم هل سيكون مثل أيامها الماضية ظلمة أو أن القدر سوف يحمل لها أمرًا آخر ..؟ دخلت الغرفة وبدأت في جمع أغراض زوجها الراحل لترمي بها .. هي مجرد أثواب بالية .. لن يستفيد منها أحد، فالأولى حرقها. وفي خلال جمعها الملابس تسقط ورقة.. يظهر أن الورقة قديمة .. تفتحها .. إنها ملكية البيت .. ولكن الغريب أن قاسما قد سجل البيت باسمها .. وهي تعرفه أنه لا أقرباء له حتى يطالبوا بالبيت .. هل هناك سر تجهله وأخفاه عنها ..؟ أخذت السند واحتفظت به في أغراضها .. وخرجت في فناء البيت وأشعلت النار في الملابس وانتهت قصتها مع قاسم لتبدأ حياة جديدة في بيتها .. تغلق بابها عليها وتخلد إلى النوم .. وقبل أن تنام شكرت الله تعالى على وقوف أهل قريتها معها، فقد كانوا العوض عن أهلها .. اليوم سوف تنام على سرير وليس الأرض فقد تبرع لها أهل القرية بسرير وفراش ولحاف كانت فرحة بهم كما أن الثلاجة مُلئت بالفواكه والخضروات، وهناك طقم جلوس مستخدم وضع في الصالة .. قالت في نفسها: هذه بداية التغيير وغدا أفضل .. أطفأت المصباح ونامت.