قصة .. مريم ( الجزء الثالث والأخير )
شريفة بنت راشد القطيطية
الغيمة مقفلة منذ زيارتك اليتيمة، لقد زرتها قبل قليل، بها حُزن ظاهر، والياسمين كثير العتب، إنه يشتاق لك، حين تشرق عليه الشمس يذكرك، وحين يأتي الهلال يتأرجح فيه ضجراً وولهاً.
العناقيد معلّقة بين عنقٍ ونهد، تنحت القبلات حين لا يوجد لقاء مفعم بالأمنيات، يسافر بك إلى اجتماع خفيّ، وحان وقت الليل؛ حيث لا ليل لغمٍّ مشتاق وحس شجيّ، لا وقت للهجر وغيمنا منتصر، وحلمنا يبحث عن تفاصيلك الملقاة على أرائك القُبَل وهمس الأطياف، هناك امرأة محبوسة في العليّة مغطاة بالذنوب، وطفلها يكبر في أحشاء الطرقات يبحث عن مفقود لا ينتظره، وهناك آثارك تلمس الخافق والوقت، وتحوّل العشق إلى عناقيد نجوم، الغيمة أجمل حين يتوقف الزمن عند لقائنا، العليَّة مهيأة لاقتناص فرصة أجمل لمريم، إنها تحظى باهتمام رغم سجنها، تأتي لها بالغفران، إنه يعاملها كعاشقة تولّت أمر نفسها وغلبتها العاطفة، وأجثمت وتوسدّت حريتها، ويأتي لها بوعد أجمل، رغم الحكم عليها بالسجن كمارد الزجاجة.
مريم تلك العاشقة التي خرجت من رحم الظلم، وأحدث ضجة في روح متعبة، جاءت بوقت كانت لتثمر لولا وقوعها في الحب الذي حكمت به على الروحين بالهلاك، تأتي العليَّة بخبز القمح وتعجن لها أسرابٌ من النحل والزهور لخوض العسل في معدتها الجائعة ورحمها المثمر روحاً جميلة، جاءت كنبض وعدٍ وتعدت كل التوقعات، وفي الطرف الآخر روحٌ عاشقة تزرع الياسمين في الغيم وتشهد انبلاج الفجر من غرور الأيام، وتوحدت روحها بسبب رجل لم يأتِ بالخبز ولا العسل، لقد تركنا أمرهُ للنحل، وتقاضينا الأجر، لا يمكن لمريم أن تعدو بين جنبات الحقول وبطنها يكبر دون ذنب، وتعمل على اقتراب موعد ولادتها، هي من كانت تأخذ كل أوجاعي وتصر على ابتهاجي، واليوم نبحث لها عن حلّ لتصل للغيم دون مرأى من الناس.
الغيم دائماً يأتي بالجمال، ويجعل ذاكرتك مخلّدة بالفِكر، وعبث الغابات يتّصل بها كلّ صباح، أملٌ في قلبها أن ذلك العاشق يغسل وجهه في فجر حجرها، ويبحث عنها ليكمل غرقه بها، كيف يملأ أشتات الغبار أن يلمع سطر الفضاء ليرسم عناقيد التوهّج ويستقبل أول القادمين، وقصر الغيم ممتنٌ لكل العاشقين، إنها تستمع لموعدٍ غراميّ بین هلالِ ونبض الحاضرين، لم تكن لتحضره للغيم، ولكنه العشق يملأ المكان بالصدق ويختمه بالذنوب، فقليلٌ من يقف على عماد العشق ويثبت وفاءهُ، ويترجم حبه وعشقه بالرباط المقدّس، ولمريم مقولةٌ أنها لم تتمكن من نزع قلبه من محفلها، ولم تتخلص من طفلهِ؛ لأنه روحٌ لا ذنبَ لها، جاء ليولد ويكبر ويفرح به والداه، وهي في داخلها أنه سيعود ليأخذ طفله الذي انتظره سنواتٍ طويلة من العمر.
يأتي الغيم أسيراً يشرب من ظل الشمس، وينام في حضن العمر، ويحمل بين أرائكه الفصول الأربعة؛ يرحل بالهمّ، وللغيم حكايا لا يوثقها إلا مريم، لها توقيع مُفعم لا يخطئ حين تكون في قمة شبابها وألقها، هي العطر الذي يتربع عرش الثمـــالة بالخفقات، ويمارس أسطراً من عبق الخيزران، وأسيل الغيم، لا يخطئ حين يزهر العاشقون ويجبرهم على حماقات قد لا تتجنبها الوطأة بين شرايين الدقة.
مرّ شهر، ومريم تداعب نبضاتٍ تنهج في أحشائها، وأصبح لها الآن خمسة أشهر، وتعدّ الأيام لتمرّ مجدداً بين حدائق الياسمين وخيوط الشمس، ولكنْ، يحدث شيءٌ لم تتوقعه، لقد استمرت في العُليّة لتعاقب نفسها، ونسيت الاهتمام بمن يذكرها بالودّ وخفق القلب، أجهشت في البكاء، ومن سيأخذ بيدها وهي تعيش أسيرة خطيئة لم تقصد ارتكابها، إلا أنها توسّدت رحيقاً عذباً بين أحضـان من لا ينسى.
ازداد ألمها، وتعدّدت عذابات جسدٍ نحيلٍ ليس لديه قوةٌ ولا تحمّل، لديها الماء الذي تدخله في جوفها مُرغمة، تعطّلت كل سُبلها لتصمد وتتصل بروحها الثانية المدرجة تحت ظلّ الغيم، وهي تراقب مريم لعلّها تستعيد عافيتها وتكمل مشوار حملها على خير، اقتربت منها مسرعة وهي في حالةٍ سيّئة لتنسى كل شيء، وتحضر لها الطبيب على عَجل، الألم يكبر والأمل في بقاء تلك النبتة في أحشائها يتضاءل، وتغرس المنية أنياب الوداع، ومريم تبكي بحرقةٍ حين ودّعت آخر نبضٍ شعرت به، تأتي من عمق تشرین وجماله، وتغسل قلبها بالورد، ثم ترحل وتذبل مريم وتموت فرحتها، وقد أجهضت طفلكَ معها.
المكان لا يتّسع لثلاثة، ولا يتحوّل لبراح العاشقين حين نفقد آخر أمل يُعدّ لنا موائد من غزل البنات وشفاء الحالمين، حين تفقد قطعةً منك، تتوهّم أن العطاء لن يتواصل معك، ولن تترك أنفاسك تمشط شعرها على موجٍ هادئ، لنا في الذنب عفرانٌ، ولنا أن نستقرّ في التوبة، الحبّ لا يعني الخطيئة، ومريم أيقونة الغرام الذي جاء من مراسم عُلويّة، متماثلة لشفافيةٍ وعلوّ، هي من تُواعد الخيال لترسم به الأطياف، وتُسعد المكسورةُ قلوبهم، ليتها مريم تعدّ البابونج لتهدأ، والله أعطى والله أخذ، تزورها صديقتها كل مساء، وتتعلّم أن المسألة تعلّم الفهم والإدراك، يصل بك منابع الحياة التي يبحث عنها الصالحون، وإذا مرت بك مأساةٌ تمسّك بها واكسرها، وتعلّم كيف تصبر وتتحمل وتتجدد؛ حيث يوجد الأمل توجد الحياة.
المواطنون يتركون حقائبهم بين جدران الصمت، ويستقلّون قطار الليل إلى حيثُ البؤس، يدركون أن العبور في مداخل الوهم لوحةُ ينقصُها نقشٌ إسلاميّ لا يتكرر، ولعلّه خيرٌ أن تجهض طفلها؛ لأنها لم تعد تسمعُ شيئاً عن ذلك المسافر العابق بجنون مريم، يتركها خوفاً وليس خيانة، الخائفون الغائر جروحهم في القلب كيف تتمنون الانتقام؟! وقد طهّر اللهُ تلك القلوب بجمال الحب، وهي آجالٌ تحين، ولكل شيءٍ نهاية، تعلّموا الغفران وحُسن الذكريات لذلك الحب رحمه الله، وقرابين الوجد تأتي لمسافاتٍ لا تدرك أهميتها إلا إذا توغّلت في القلوب، ولكنك لا تعلم لأي مدىً هي صادقة وموقنة، المسألة أن نقاء القلوب لا يُرى إلا تحت ضوءٍ قويّ كالأحجار الكريمة، تنعزل أهمية القلب حين تغفر وتسامح، ومريم لها قوافل نقاء وتسامح، هي أحبّت وأضرمت النار في قلبها، والغيم طهّر نفسها، وأخمدت تلك النار بمطرٍ ساخط يعلّق السبايا وينتهك الحريات، ويعلّمها كيف تنقاد لغيمٍ أبيض يراسل العاشقين في سفوح الجبال، فالمكــان مزدحمٌ ومتوغل بالشكر، متوحشٌ يعضّ على يدي تارةً، ويقبّلها تارةً أخرى، يتمرد على الوقت ولا يكترث لبقائي بجانبه، ويعطّل المرايا حتى لا أرى وجهي فيها، وأعشق من جديد، ويسلب أحلامي وينام.
أحبكَ حين تأتي بكَ السماء، في لحظة استغفار، ويعود الغيم بآيات عشقي، لأضمّ الليل بين يديك، وأعدّ أنفاسي في أحضان أطيافك، متمردةٌ مريم، تبحث عن أشيائك بين أكوامِ الورق، وتصنّف غريزة العشق تحت مسمّى السلام، ويأتي سلطان عبقها ومناداتها للسعادة، أيقظوا العوامل المؤدّية إلى (كن لي اليوم وأكن لك غداً)، الجمـال أن تصنع لذات الحُسن مراما قاهرا يُدرجهـا في قوائم المسرّات والغَلبة، وعفا الله عمّا سلف.