قصة … مريم (الجزء الثاني)
شريفة بنت راشد القطيطية
كان يشتاق مريم أكثر مني، ويبلل وجه السؤال كل وقت، ولا يدعها تمر إلى أحضان العصر، ولا تكلم غيره، لقد كانت سجادة صلاته التي تطهر بدنه من التفكير في المضاجع، ويغمس قدميه في وحل الرغبة، لقد تاه بها وتاهت به، ومن يصدق ذلك الحب ليقول لها: تعالي وأفرغي أنوثتك في ثيابي وضعي جنونك في اقترابي، وتقول له: أنا الأنثى بكل هدوئي وراهبة أحياناً بكل هيامي، أسقطك بكل هذا الهدوء، وإذا أجبرك الشوق أن تسأل، فاطبع إبهامك بصمة في قلبي واجعلها إشارة دخول، وحين ألتقيك أبدأ بتفاصيلك الخرساء، وتبدأ لمسي بهمس منك يقتلع الجذور، وتمرد بين أضلعي شهيداً كقصاصات الورق، فالميلاد يعود حين أتنفسك وتدخل في شراييني بدقة، وتعبر خلايا الحدود، وإن كان تمزقي بين يديك، أقر أنا أن تأخذني تحت الظل لأقبلَ شفتيكِ حتى الثمالةِ، وأنتظر باقة عرسي التي ضلت الطريق، واشتهائي الذي يحطم معابد الكفرة، كأنك تتسلل إلى الروح بخفة وأخاف أن أحبك دون أن أشعر وأبتليك بعشقي.
لقد أحس أنه غرق في الذنب وهام للغفران، ولكن رغبته أصرت، وفصل فخاً غير ملائمٍ لتلك الزهرة التي بدأت تتفتح من رحيقه، وقد هم بها أن واصل عشقها مودعاً دون علمٍ منها، لقد سجدت رغبته تلك الليلة، وكان وحيداً يترقب الحلم، لقد واعدها في الغيم كعادة الخيال أن يحلو كما أرادا ذلك، وكانت ليلة أخرى جميلة، توادعا وهما على خدر الليل، وفي الصباح استأذنها أن يسافر يومين ويعود كعادة علاجه من بعض الألم، وسلمت عليه بابتسامة عشق وأمان، وهو في نفسه غدر وندم، هكذا تبدأ المأساة إذا لم يكن هناك مصارحة وتفهم .
نسيت قبعتك تحت ضوئي، عُد وخذها قبل أن يملأها مطر الشتاء، وعد برر لي ما سعيت له من حب أو من غدر أو من أي مسمى فكرت به، ألم تكن مريم لك الحياة؟ ألم تتعهد أن تسعدها وتزركش صباها بعطرك؟ ما زال لديك الوقت لتملأ سلة أزهار وتضع عليها من أنفاسك وتقدمها لعاشق مجنون، نحن معا نعبر حدود الغربة، إما أن أريك الشمس أو تهوي بي في ظلمة، وأقرؤك في وضح النهار وانتظر، فكم كان للانتظار ألم! والله يجبر ما في القلوب من آهات، ويأتي طيفك ليبني ما تَهَدّمَ في الشريان، ليت للشريان أيادي لتساعدك .
القاطنون خلف أسوار القلوب، ارحلوا، أتى الطوفان، سيقتلعكم ويدمّر كلّ ذكرياتكم، الغدر له أنياب وأنا متمردة حين يلوح ضوء وجهك نحوي، لقد تخليتَ عن ذاكرتي ورجمتني بالكبرياء، وأخذتَ ما تبقى منك ونفضتَ أشجاني، ولم يجرؤ قلبي أن يتوسل إليك، فرائحتك عالقة في القلب، ومن يمسح شذى العطر من جوّ الحدائق، لقد تورطتُ فيك أكثر وانحنيت لسمائك، كيف تبدو سمائي حين يأتي احتماؤك.
ليكُن لديّ أملٌ في أن تنبت في ملامحي أنت، وأن يزهر باقي العمر بك، وبما أشعر به في أحشائي من نبضك، لقد فقدنا الشتاء الذي نعرفه، وستكون كل الشتاءات مراقص ليلية ليس إلّا، ويملأ كفوفهُ بالوهم ويغمسك في أحلامِهِ، ليت الطريق الذي أدّى إليكَ حطام، لقد أتيتَ صدفةً، وما أجملها من لحظاتٍ قضيتها في كنفك! ولكنْ كانت الأوهام تأخذُ حياتي لسفح جبلٍ وتأخذ أجمل التعابير وتتنهّد بين ألِفٍ وباء، كيف تزرع الياسمينَ في قلبي وتسقيه من ماء البحر؟ لماذا تأتي كسرب حمامٍ وتطلقُ نشاطك في وجهي؟ لماذا عندما أبدأ العدّ تخرسني بغيابك؟ لماذا ترسم خارطتكَ على وجه أحلامي وتعدني ألّا تتخلّى عنّي وترحل، وتسكب كل الأماني بِصمتك؟
تأتي من رحِم الغيم وتذبل في يدي، أكنتَ هشّاً لهذه الدرجة؟ ألا تعلم أن الغيم لا يأتِ إلا بالرحمة؟ أين أضع أمانييّ معك وأنت أول اختبار لك معي وفشلت؟ وتظن أن رياحك تأتي بالعطر، العطر ينبع من داخل روحي، ويوقظ الرياح والأعاصير، ويرجعك خالياً دون رائحة.
مريم هنا هي وحدها المصابة بذعر الغابات وألم القلوب، واختناق الرجل تحت أنياب الجنون، وهو المُلام في ذلك، فاعتقادك السائد أن صمتي هذا ضعفٌ مني، واعتقادي الخاصّ، تلفّت أكثر ربما تباغت أنت في أيّ لحظة، الفراق يغسل ملامحك ونبضاتك، ولا يبقي لك إلا جسدٌ من ورقٍ، خذه معك أيضاً، وعلّقه على جدران غرفتك.
تأتي في مخيّلة مريم كأيّ اعتذار مُثقّل الأطراف، ولها أن تستوعب إن كان حلماً أو حقيقة، أو أن الفرق بين الحلم والاعتذار هو وجودك، ستأتي وقد ترحم قلبي من حماقتك، هكذا المساء يأخذك لتناول العشاء في أرقى مكان، ويعيدك للفراش جائعاً ولا أمل لك حتى الصباح، ثم يعود بك المساء تتلفت حولك لعلّي أفتح لك باب البيت وأعطيك وردة، وأصدقاؤك يغارون وينقهرون وهذا في حلمي، لو أنكم تتركونني بحالي أترجم أدقّ التفاصيل، وأهرب تارةً للنور، وتارةً للسموّ، وتارةً للاختناق من روحٍ وصلت أرذلها من همومٍ وخيبةٍ وحظٍّ متكسّر، لا أصِل لفرح إلا وتعثرتُ بلغمٍ أباد تفكيري بالفرح، وحولّني إلى حُطام، ثم يعتاد القلب على نبضاته العاشقة، ويحمل متاعه ويرحل، يضبط ساعته على ساعة التوقف ويهدأ، وينام حتى يشعر بالاشتياق مرةً أخرى.
لو يأتي خيالك إليّ سأخبره كم اقتلعتْ مراكب العشق القادمة من فلاح بسيط يخلط المشاعر بالتراب! وتنبت في أرضه لا في قلبه، وسأعلّق ما أشعر به، وسأخبرك كيف ينبت في أحشاء مريم ما يدلّ عليك، وكيف سأغفر لنفسي هذه الخطيئة، أتعرف متى تُرتكب الجرائم؟ وقت الصمت، وقت اللذة، وقت الغيم، ونعبِّؤها في قناديل الفجر، ويأخذها الضباب إلى ابتهالاتٍ لتدرك جيداً متى تلعب بالبركان؟ فماذا أقول لطفلك حين يكبر في وطنه؟
وماذا أقصّ عليه عن أبيه؟ وماذا سيخطر ببالي أن أتصفح وجه القمر والليل معتم؟ سيأتي باحثاً عنك، وسيرسم وجهك في معارك الصالحين، وسيبحث عن اسمك كيف يكون له وأنت لا تعلم عنه، الحب يأخذك هناك حيث الغيم، وأغتسل من قلبك وأشتري نبضاته بلسعة الشوق إليك.
أعود وكأنني تائهة من ألف عام، وغربية على الزمن، إحساسٌ يقتل كثيراً عندما يبطئ الحبل في اختناقك، وتثمل دون أن تشعر بالوجع، يتساقط الجسد منهكاً من آلاف التمتمات، ويأتي الحب يتربص بك ويعلقك بين مليون آهٍ وونّة، تأتي كنفَس عابر ويخنقني احتياجي للهواءِ، وآه من لمسات تعدّت الشرايين ولمست دقات القلب، وتمادت وأرست نبضاتها في روحٍ تنمو بسلام! وكيف أخبرك عنه وأنت بين فراغات الوداع والبُعد ولا أعلم عنك شيئاً! ولن تنمّ أخطاؤك عن أي شيء، ولن نتقدم، هكذا نحن نكبر بالحزن ونتغذى من العزلة.