2024
Adsense
قصص وروايات

قصة … عذراء الفتى العاشق (الجزء الأول)

بلقيس البوسعيدية

لا يدري كم يوما مضى عليه وهو يسير على غير هدى بين طيات طرق وعرة قبل أن يصل إلى هذه القرية التي لم تطأها أقدامه ذي قبل، أضاع وجهته المرجوة برمشة عين بعدما هبت عليه رياح شديدة جردته من كل حاجياته ومن بينها خارطة الطريق التي كان يستدل بها على الوجهة، لم يعد يملك شيئا سوى ساعة ذهبية تطوق رسغه الأيمن يستدل بها على الوقت الذي أصبح يشك في صدقه منذ أن لفحته حرارة الرياح وهزت موازين خطواته، وجد نفسه فجأة يهيم في ضواحي قرية مجهولة، لا يدري إن كان هناك من يقطن هذه البيوت الطينية التي تبدو رثة، هشة، متهالكة، بل ويجهل إن كانت هذه القرية قد زارتها أقدام بشرية من قبل.

يجتاح الوهن جسده، يسير ببطء شديد إلى الأمام… إلى اللامعلوم، مثقل بتعب المسافات التي قطعها مشيا بقدميه العاريتين اللتين لفحتهما الشمس، بذلته البيضاء الأنيقة تفترش جسده الهزيل في محاولة لبث رقيها الضائع، رغم الغبار الكثيف المتكدس على كتفيها إلا أنها ما زالت تحتفظ بشيء من رونقها المعهود، شعره الأشعث بجدائل ترابية يبدو لشخص خرج لتوه من حفر خندق رملي ضيق، الأرض الحارة تمتد تحت قدميه العاريتين باعثة بقلبه شعور مقبض، وها هو الليل يسدل ستاره معلنا سيادة الظلام، يقرر (جون) أن يستريح قرب صخرة عملاقة، يرفع (جون) رأسه نحو السماء المظلمة التي بدت له غريبة في هيئتها المشوهة، تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها سماء الليل دون نجوم، لا شيء فيها سوى قمر شاحب الوجه حزين ومهموم يجاهد في بث نوره الخافت للأرض، مما جعله يفكر في نفسه: “يا ترى ما سر السماء هذه الليلة؟، أين النجوم؟!، هل بكت السماء حتى خسرت كل نجومها على هيئة دموع!؟، أم أن سماء هذه الليلة عقيمة!؟.” أطلق تنهيدة عميقة من أنفه، ثم أخذ يتلفت يمينا وشمالا، فلم يجد شيئًا سوى الفراغ المميت، فلا صوت هنا سوى همس حفيف الأشجار المتناغم مع سيادة الظلام، انتابه القلق والفزع من صمت المكان وسكونه الناعس، أخذ الخوف يقفز في عجالة إلى قلبه الواهن، أغمض عينيه مواسيا نفسه: “لا بأس على الأقل ليس هناك حيٌ، لا داعي للخوف يا (جون)، الأفضل لك أن تخلد إلى النوم الآن.”
استيقظ (جون) مذعورًا على صوت الرماح والسيوف، وروائح نفاذة إصابته بالغثيان.
“ارفع يديك.”
يفرك (جون) عينيه معا بكلتا يديه؛ لتتضح له الرؤية وهو يقول: “يا إلهي.”
“هيا ارفع يديك، ألا تسمع ما أقوله لك؟!”.
رفع (جون) يديه وهو يقوم واقفا معلنا استسلامه وخوفه الذي بدا جلي على وجهه، وقال باستسلام يائس:
“أرجوكم لا تقتلوني.”
تقدم رجل طويلٌ جدا من بين الرجال وهو يجر من خلفه عباءته البيضاء، له شفة مشقوقة، ويرتدي سروالًا فضفاضًا أكبر منه بكثير، وفي يده اليمنى بندقية، ويتوسط خصره خنجرًا فضيًا ذا تفاصيل دقيقة، في رسغه أساور فضية عريضة ثقيلة الشكل، ذات أشواك مدببة، يبدو أن هذا الرجل هو زعيم القرية.

قال الرجل بصوت عال وهو يصوب بندقيته بشراسة منتظرًا اللحظة المناسبة لكي يرمي رصاصة تخترق رأس (جون):
“من أنت، وماذا تفعل في قريتنا أيها (الغريب)!؟.”
صمت (جون) بضع لحظات شاخصًا ببصره ناحية الرجل الذي اتخذ هيئة أسد وحشي، قبل أن ينطق بصوت متقطع مرتجف وأوصال ترتعد:
“(جون)، اسمي (جون).”
وضع الرجل إصبعه على الزناد وقال بحدة:
“وما الذي جاء بك إلى قريتنا يا (جون)!؟
اتسعت مقلتا جون في رعب جلي وهو يحاول إخراج نبرة صوته المرتجفة في جملة مفيدة واضحة: ” أنا… أنا ضائع، أضعت وجهتي وجلست هنا بجانب هذه الصخرة؛ لأسترح قليلا. ”
قال الرجل بصوت ملأه الغضب، وهو ينظر في عيني (جون):
“تبا لك.” ثم ضغط على الزناد فلم تخرج الرصاصة، عمَّ الهدوء لثوان ثم بدأ الرجل بالضحك بقوة فجأة حتى أن بقية الرجال انفجروا هم الآخرون في الضحك، وعندما هدأوا، تقدم الرجل بخطوات بطيئة حتى توقف أمام جون تماما، ثم قال بنبرة حازمة:
“أكرموا ضيفنا يا رجال.”
قرر الزعيم أن يستضيف (جون) في منزله الطيني، قدم له الطعام والماء، قدم له من الغذاء ما لم يكن يطعم أهل بيته حتى في الأعياد. لم يستطع (جون) رفض دعوته، كان مجبورًا على قبول تلك الاستضافة ليسترح بضعة أيام بما يكفيه لاسترداد عافيته ونشاطه.
قرر جون أن يتنزه في القرية برفقة ابن الزعيم (هود)، بينما كانا يسيران قرب الأشجار الكثيفة لاحظ (جون)، جمجمة تنبعث منها رائحة الفناء، تتدلى من على غصن شجرة عملاقة وارفة، انتابه الفضول بشأنها؛ فاقترب منها أكثر ليتحقق منها.
قال (جون) فزعا:
“جمجمة، يا إلهي، نعم… نعم حقا، إنها جمجمة، جمجمة بشرية يا (هود).”
اقشعر بدنه، عبره خيط حاد من الرعشة، فسأل (هود) بنبرة متعجبة:
“ماذا يعني هذا يا (هود)، لمن هذه الجمجمة؟!.”
أجاب كمن اعتاد قول الحقيقة بدقة:
“إنها جمجمة (الفتى العاشق).”
قال (جون) بحاجبين معقودين:
“(الفتى العاشق)!؟”
أومأ (هود) برأسه إيجابًا، ثم قال وهو يشير إلى الجمجمة:
“ألم تسمع عن قصة (الفتى العاشق) من قبل!؟.”
أومأ (جون) برأسه نافيا، ثم سأله بتلهف:
“وما قصة (الفتى العاشق) يا ترى!؟.”
التزم (هود) الصمت للحظة، ثم قال:
“يبدو أنك لم تسمع عن قريتنا من قبل، هل تعرف حتى ما هو اسم قريتنا يا (جون)!؟.”
قال (جون) وقد دغدغ الفضول نفسه:
“لا، لا أظنني سمعت بها من قبل.”
“حسنا، لنتفق إذن، أخبرني أنت أولًا عن نفسك، من أنت!؟ ومن أين أتيت؟! وإلى أين تذهب؟، بعدها سأقص عليك قصة قريتنا.”
صمت (هود) للحظة، ثم ألقى نظرة خاطفة إلى الجمجمة، وقال مبتسما محاولا تلطيف الجو:
“وقصة الجمجمة البشرية تلك أيضا.”
أومأ (جون) رأسه موافقا، وراح يخبره بجميع ما جرى له من الأول إلى الآخر.
تنهد (هود) قائلا بارتياح وتفاخر:
“أهلا بك يا (جون) في (قرية العذاري).”
غابت الشمس وخيم الظلام، نظر (جون) إلى السماء البعيدة فلاحظ اختفاء النجوم منها، ولاحظ أيضا وجه القمر الحزين، نظر لهود مرة أخرى وسأله متعجبا:
“هود؟!، لِمَ تبدو سماؤكم غريبة هكذا؟!، أين النجوم؟!، هل كل الليالي في القرية شديدة العتمة هكذا دائما !؟.
أجاب (هود) بصوت هادئ وهو يشعل سيجارة ثم يملأ بدخانها رئتيه وينفثه ببط في الهواء:
“سماء قريتنا مميزة، ليست ككل السماوات، لم تبزغ نجمة فيها مذ أن ماتت (ياسمين)، ووجه القمر لم يكن يبدو حزينا هكذا، ولكنه كان مترقبا على الدوام ليلة القربان.”
جون مندهشا:
“ليلة القربان.”
أكمل (هود) قائلا:
“أجل، ليلة القربان، ليلة السمع والطاعة.”
صمت للحظة، ثم أكمل قائلا وهو ينفث الدخان من فمه:
“لكل سماء قصة يا (جون)، قصة تستحق أن تروى، وسر اختفاء النجوم لا يختلف كثيرا عن سر قصة جمجمة رأس (الفتى العاشق).”
صمت قليلا، ثم حرك عينيه نحو (جون) قائلا:
“هل تحب سماع القصص يا (جون)؟.”
“بالطبع، لطالما شغفت في صغري بملحمة بيولوف، وحكايات كانتربري، إنني متشوق جدا لسماع قصة قريتكم التي تبدو غريبة عليَّ، أخبرني أرجوك قبل أن يقتل الفضول قلبي الصغير.”
قال (هود) بفخر:
“نعم، سأحكي لك.”

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights