قصة … بقايا إمرأة من طين (الجزء الثاني والأخير )
بلقيس البوسعيدية
لقد شل الفقد جسد شقيقتها الوسطى (فاطمة)، التي لم تحتمل فاجعة رحيل والدهما، كانت رقيقة المشاعر ذات قلب مرهف وروح من حرير. لم تشعر جدتي قط بثقل جسد شقيقتها كلما جاءت تحملها بين أحضانها كطفلة صغيرة لا تقوى على الحراك، لقد شعرت بحماس قدميها يهز الأرض في كل مرة سارت بها وهي تحملها بين أحضانها، فمن ضعف شقيقتها؛ نبت لها جناحين وشعرت كما لو أنها فراشة خفيفة رشيقة تطير بها فوق سفوح الجبال، وتعبر بها الطرقات الوعرة وتحط بها قرب ضفاف الأنهار، وتحت أشجار الرمان التي تحتفظ بدفء وملامح ورائحة والدهما، كانت تشعر بحزن شقيقتها وتلمس روحها المكلومة من عينيها المسبلتين، حاولت جدتي بقلبها الرؤوم أن تسعد أختها التي ألبسها الحزن، وفي ذات يوم قررت أن تسعدها بطريقة ما فعرضت عليها أن تذهب بها إلى السوق لشراء ملابس جديدة ولكنها رفضت وحاولت إقناع جدتي بأن تأخذ بها إلى المزرعة؛ لتنعم بنوم هادئ في ظل شجرة الرمان الدافئ، نجحت في إقناعها وحلقت بها مسرعة لتحقيق رغبتها، يومذاك ذرفت جدتي عليها الكثير من الدموع، اعترتها الدهشة وانتباها شعور مفاجئ بالفزع، حاولت إيقاظها مرارًا دائمًا ولكنها لم تستجب لها، حضنتها باكية والعرق يتصبب من جبهتها، ثم أدركت في قرارة نفسها بأنها قد توفيت وتركتها وحيدة مع الحزن والفقد، وكأن ظل شجرة الرمان قد ابتلع روحها وقلبها وترك لها جسد شقيقتها فارغا، غطت في النوم كالجثة الهامدة ولم تستيقظ إلى الأبد.
عانت جدتي الكثير في حياتها وشربت من كؤوس المر والصبر، جاهدت لسد الفراغ الذي اقتحم قلبها برحيل أحبابها، أصبحت هي الأب والأم والأخت لشقيقها الصغرى (مريم)، لم تتذمر قط من حياتها القاسية، ولطالما كانت تقول: “بأن ظروف الحياة الصعبة قد جعلت منها امرأة قوية، عانت مع الفقد والحزن وجاهدت لتبقَ بقوتها الجسدية والنفسية على حد سواء.”
تزوجت من جديّ بعد أربع سنوات من موت شقيقتها (فاطمة)، كان جدي رجلًا فارع الطول، وسيم الوجه، نحيل الجسم، ذو لحية كثيفة سوداء كقطعة من الليل، وبشرة سمراء، كان وسيمًا بقدر قوته ومهاراته الفروسية التي ليس لها مثيل.
ما زلت أذكر ما قالته لي جدتي بوجهها الباسم: “بأن جدي تقدم لخطبتها عشرات المرات وفي كل مرة كانت ترفض خطبته؛ فقد قطعت عهدًا على نفسها بأنها لن تتزوج قبل أختها الصغرى (مريم)، لن تتزوج حتى تراها مستقرة في منزل دافئ بين أحضان رجل كريم ورحيم، تحبه ويحبها.”
كانت ترتسم على وجه جدتي ابتسامة وديعة كلما جاءت تقص علي قصة زفاف أختها، قالت جدتي بملامح تحمل شيئًا من القوة والشدة: “بأنها قد أهدت شقيقتها بعد زواجها إبريقًا نحاسية، وبتلك الهدية البسيطة استطاعت أن تدخل السرور إلى قلبها اليتيم، فقد أصبحت تلك الهدية هي الذكرى البارقة الوحيدة السعيدة في حياتهما.”
عاشت جدتي حياة بسيطة، آمنة، وهادئة، حياة يملؤها الحب والسعادة مع جدي، واكتملت سعادتها حينما أنجبت أولادًا بارين بها، كانت تنظر لهم بعين قلبها وتراهم مثل القمر المكتمل في يوم تمامه، قامت بتربيتهم والاعتناء بهم حتى أصبحوا لها عونًا على الحياة، لم يحزنها غير وفاة جدي عندما تركها في منتصف الطريق قبل أن تكتمل سعادتهم بزواج أبنائهم.
لن أنسى ما أوصتني به جدتي ذات ليلة وهي تقبض على يدي بحرارة وكأنها تود أن أحفظ كلماتها في قلبي وعقلي ما حييت: ” إياك ثم وإياك أن تربطي أحلامكِ وسعادتكِ برجلٍ أي كان.”
صمتت قليلا، ثم أردفت قائله بصوت ملأه الأسى:
“أشفق على كل امرأة تربط حياتها برجل أحبته ورأت فيه أحلامها وسعادتها المفقودة بين أيادي الحزن الخشنة، أشفق على تلك المرأة التي تنكسر وتغيب عن الحياة بغياب رجل أحبته، بعد موت أبي اعتقدت بأني لن أستطيع أن أكمل الحياة من دون رجل كوالدي حتى اللحظة التي جمعتني بجدكِ، لقد أحببته ورأيت فيه أحلامي وسعادتي التي فقدتها برحيل أبي، لكنه كسر قلبي عندما تزوج من امرأة أخرى، لقد حطمني وأوجعني حد الموت.”
ثم صمتت لبرهة لتلتقط نفسها قبل أن تتابع: “أهانني وجعلني أشعر بأني لست كافية له وكأني لم أشبع قلبه قط، طعن كرامتي حتى خلعته من قلبي، فالكرامة فوق الحب يا ابنتي. داويت جرحي وحدي، صرت طبيبة نفسي، سمحت للحزن بأن يعبر قلبي دون مقاومته، كفكفت أدمعي ورتقت جراح روحي ورفعت رأسي وقلبي ما يزال ينبض في ألم أثر الكسر العميق الذي أحدثه فيه، وجدتني أتنفس الحياة بدونه وأقطع مسافات أيامي الطويلة في قلق الظلمة بدونه، أحلم وأنجح في الكثير من مشاريع حياتي بدونه، عشت معتمدة على نفسي ولم أسقط يومًا رغم المرات التي تعثرت فيها بحجارة الحياة.”
كان قلب جدتي معتادًا على تجرع علقم الفقد والرحيل والخسارة، مات والدها؛ ففجعت روحها ولم تستطع تصديق رحيله حتى اللحظة التي أحست فيها بالوهن والضعف يقضمان أطرف قلبها، استجمعت فتات قوتها والتقطت أنفاسها؛ لأجل أن ترعى أختها المشلولة (فاطمة) التي أصبحت تبصر الحياة من عينيها، وتتنفس الطرقات برائيتها، وتتحسس ملامح الوجود بأناملها. هبط الحزن كصاعقة في قلب جدتي بوفاة جدي بعد صراع طويل دام مع المرض (السرطان)، أصبح الموت ييمم جراح روحها كلما فقدت ابن من أبنائها، فصل الفقد ظل يتجدد في حياتها، مات أعمامي فلذات كبدها ولم يبق لها سوى والدي، أحبته كثيرًا وفتح لها قلبه وبيته لتسكن معنا في أمن وأمان، خاف عليها من الوحدة والوحشة رغم أن قلبها معتاد على صقيع الغياب، كل أيامها كانت مشوبة بالفقد والحنين.
عاشت جدتي في منزلنا ما يقارب السبعة أعوام، سبعة أعوام من الدفء والحب والرحمة، فقد أضفى وجودها في منزلنا نور وبركة، ازددت أنا قرابة منها حتى أصبحت لي بمثابة الصديقة الحميمة التي كنت أبحث عنها طوال عمري، لم أشعر بفارق العمر بيننا رغم التجاعيد التي خطها الزمن على وجهها، كنت ألمس فيها روح الطفلة اليتيمة المخضبة بالحنين، والأخت البارة المخلصة، والأم الرؤوم، والجدة الحنونة والمرأة الصلبة المثخنة بالحزن. أحبتني جدتي وأصبحت محظية لها، ظفرت بإعجابها
واهتمامها، ميزتني من بين شقيقاتي -ربما لأنني الفتاة الوحيدة التي قامت باختيار اسمها- وعليه كنت (فاطمة) في أعمق قاع في قلبها، وأوسع جزء من ذاكرتها.
بدأ التعب ينتشر في جسد جدتي في أيامها الأخيرة، مرضت مرضًا شديدًا ألزمها الفراش، أصيب قلبها بالعجز والخمول، تباطأ خفقانه معلنًا تسرب الحياة منه من خلال الثقوب التي أحدثتها فيه أنياب الحزن، توفيت خلال نومها في ليلة شديدة البرودة.
ما زلت أذكر تلك الليلة السوداء التي دلفت فيها إلى غرفة النوم بخطوات خفة، حيث كانت جدتي مستلقية في سريري الازدواجي الذي كنا نتبادل فيه الأسرار والأحاسيس والحكايات، ونتشارك فيه النوم والأحلام معا، كان رأسها غاطسًا في الوسادة البيضاء وهي مغمضة العينين، وشعرها الأبيض مضفور في عدة ضفائر، تشرب قلبي الخوف من ملامحها التي بدت جافة ومخنوقة، حاولت إيقاظها، همست في أذنها بصوتي المرتجف: “جدتي… جدتي.”، لكنها لم تجب وبدت جامدة كصخرة صماء، بدأت أطرافي ترتجف، أنفاسي وحتى أهداب عيني، جلست على حافة السرير، تلمست بيدي قدميها الحافيتين؛ فسرت القشعريرة في دمي وصعق قلبي لشدة برودتهما، أدركت بأن الموت خطف أنفاسها أثناء نومها، ضممت شفتي لداخل فمي من شدة الحزن، بدأت دموعي تنهمر فانتحبت بحرقة ومرارة، وبكيت بكل ما أوتيت من دمع.
لن أنسى تلك الليلة التي شعرت فيها بكل تلك المشاعر التي كنت ألمسها في صوت جدتي وهي تتحدث بلسان حزين عن رحيل أحب الناس إلى قلبها، لقد تذوقت أنا علقم الفقد والخسارة من نفس الكأس الذي شربت منه جدتي، أدركت برحيلها ماذا يعني أن تودع أحدهم إلى الأبد وهو ما يزال حيًا في قلبك.
تلك كانت جدتي وأكثر، حزنًا وحنينًا وذاكرة متعبة وبقايا امرأة من طين.