لأجل مَنْ نُحب.. سنعيش.. وإن رحلوا..
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
ما أجمل أن نحيا من أجل أهداف ننشُدها، ونتمنى تحقيقها، ونسعى نحو إنجازها بما أُتيح لنا! وكم هو جميل أن تكون في حياتنا أمور تستحق منا أن نوليها كل اهتمامنا، ونتذكرها دوما، وإن غابت شمسها!!
وبين حين وآخر ينتابنا حنين نحو ذكريات ماضية الأحداث، مضارعية التجدد، مستقبلية الأمل، ومهما حاولنا جاهدين أن نُشغل عنها وجدنا أنفسنا نُشغل بها، ولعل ما فيها من أحداث عظام هو الذي جعلها بهذا الوضع من الأهمية.
وفي حياة كل منا مَن نحبهم، ونحيا مِن أجلهم، فهم مصدر سعادتنا وابتهاجنا فيها، وثَمَّ دفءٌ أسريّ يبعث فينا شمس الحياة، فنستشعر حرارتها ونضارتها، ومهما أحاطت بنا متاعب وآلام، وتنازعتنا هموم وأحزان؛ فإن هؤلاء يستحقون أن نعيش من أجلهم، ولأجلهم.
بل أذهب أبعد من ذلك فأقول: إن مثل هذه المعاني تتجلّى في أرقى صورها عند فَقد أحدهم، وكم جمعتنا به أحداث كثيرة في مناسبات عديدة! وهذا أحد أسباب آلام الفراق التي تنتابنا بين حين وآخر بعد وداع مَن نحب؛ حيث إننا ننظر هنا وهناك فلا نجد إلا بقايا ذكريات خالية من أهلها، لكن مآثرهم تحيي نفوسنا وتجدد فيها آمالا وطموحات، وسرعان ما يخلو بعضنا لنفسه يخاطبها، ويتحاور معها دون أن يراه أحد أو يسمعه؛ حتى لا يتهمه بشيء من فقدان العقل أو غير ذلك، وحينها نجد الفِكر يسبح في بحار من الذكريات يتذكر هؤلاء وهؤلاء، وما شاركونا به في أمور الحياة كافة، ولا يملك حينها إلا أن يدعو لهم بكل خير، ويسأل الله تعالى لهم المغفرة والرحمة، ويقول بعضنا لبعض: لأجل ذكراهم الطيبة سنعيش، ونستمد منها كل شعاع يبدّد ظلاما، وكل فجر يشرق بعد ليل طويل.
وهذه بعض نماذج من شعرنا العربي القديم التي تجسّد لنا ذكريات خالدة جعلت الشعراء يتغنون بها في شعرهم، خاصة مخاطبة الأطلال، وتذكّر الأحباب بعد رحيلهم، وفِعلهم هذا دليل على أن الذكرى الطيبة تستحق أن يعيش من أجلها العاشقون، وما أكثرها!
ومن ذلك قول امرئ القَيْس في معلقته :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ **
بسِقطِ اللّوى بَينَ الدَّخول فَحَوْمَلِ
ما أجملها من كلمات، وما أصدقها من مشاعر! وفي البكاء تخفيف وتنفيس، وما أحوجنا إليه!
وكذلك قول عنترة في معلقته:
يا دارَ عَبْلةَ بالجِواءِ تَكلَّمـــي **
وعِمِي صَباحًا دارَ عَبْلةَ واسْلَمي
وتحية عنترة لدار عبلة تعدّ تجسيدا لهذا الحب الفيّاض، وبقايا الذكريات الطيبة التي وإن خلت من المحبوبة؛ فإن رائحتها يفوح عبيرها في تلك الدار المقفرة.
ومن ذلك أيضا قول لَبيد بن أبي ربيعة في معلقته:
فَوَقَفتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا **
صُمًّا خَوَالِدَ ما يَبينُ كَلامُها
لحظات صعبة تلك التي تفقدك عقلك وتفكيرك، فيصل الأمر بلبيد أن يخاطب الأطلال المتبقية بعد فراق محبوبته بلا رجعة، وكأنه ينتظر منها إجابة، لكن سرعان ما ينتبه أنها ليست إلا جمادا، إنه لسحر حقا! ذلك الذي جعل شاعرنا يصل إلى هذه الحالة، رحلت محبوبته، وما رحلت ذكراها، بل بقيت تلك الذكرى العطرة يتنفس منها شاعرنا رائحة محبوبته، وإنه يعيش على ذكريات الماضي الجميل، ولأجل تلك الذكريات تردّد عليها ينهل منها؛ لعلها تخفف عنه آلام رحيل محبوبته، وأنّى له ذلك؟!
وقد أظهرت لنا تلك النماذج السابقة أن الإنسان ما هو إلا ذكرى، فلنقدم شيئا ليتذكرنا به مَن نعيش معهم، وبعد رحيلنا يبقى أثرنا نبراسا يستضيء به مَن بعدنا، وإنْ رحلنا عنهم؛ مما يجعلهم يتوسّمون القول: لأجل مَنْ نُحب.. سنعيش.. وإن رحلوا..