حياة في كوخ (ج1)
خلفان بن علي الرواحي
في ذلك الكوخ البسيط عاش ( حمد) ،ليس له أحد لقد رحل الجميع عنه ،كان منبوذا من الكل عندما كان يمر في طرقات البلدة ،الكل يبتعد عنه وهناك العديد من الحجارة والعلب الفارغة التي تُرمى عليه من أطفالها .. لا يتكلم ،يمر خافضا رأسه خوفا عليه من أن يصاب ؛لأنه هو الباقي سليما .. تورَّم كل شيء فيه، أتى الجذام على أغلب أطرافه ،وخاصة قدميه التي لم يبق فيهما شيء إلا أصابه ،حتى بات يجرهما جرا ليتحرك، الدماء تسيل منها، وصل الأذى لكل جسده ،حتى هو كان يشمئز من جسده ويحاول الخلاص منه ولكن داخله إيمان قوي بأن هذا الأمر سيزول قريبا .. ذلك الشيخ ،هو الوحيد الذي يعطف على حمد ،كان يراقبه من بعيد مجرد أن يخرج من كوخه يذهب ويضع الطعام له وأحيانا بعض الملابس المستخدمة، ملابس حمد لا تُغتسل ،وإنما تُرمى، فكان يلبس الثوب الواحد لأيام عدة، تلك الملابس التي يجلبها الشيخ تشكل له فرحة، أحيانا تكون ضيقة عليه ولكنه لا يتردد في الاستفادة منها كضمادات لجروحه .. الشيخ كان نادرا ما يلتقي بحمد وأن تقابلا لا يذكر له أمر الطعام والملابس ،وحمد كذلك مع أنه يعرف أنه هو من يقوم بتلك الأفعال .. في يوم رجع حمد إلى الكوخ ووجد ثوبا جديدا لم يُلبس، فرح به كثيرا وقرر أن يلبسه في يوم العيد، احتفظ به في صندوقه الخشبي المركون هناك بزاوية من زوايا الكوخ الذي لا يحوي غيره وبساط من سعف النخيل وفراش متهالك يمد جسمه عليه .. فتحه وقلب ما فيه .. أخرج شيئا وبدأ ينظر إليه بعينين جاحظتين سال دمعهما .. في صوت مخنوق يخاطب الصورة أين ذهبت ؟ لقد بقيتُ وحيدا بهذا العالم ليس لي أحد ..لماذا بقيت ولم أذهب معك ؟ يُقبِّل الصورة ويدخلها في الصندوق مرة أخرى .. في الصندوق هناك درج صغير في وسطه وكان مقفلا .. من تحت الفراش ،أخرج المفتاح وأدخله بالقفل وأداره ليفتحه .. أخرج خرقة ملفوفة مزركشة وبدأ بفتحها .. مبلغ من المال يحتفظ به لتجهيزه عند وفاته ولدفنه ولن يكون هناك عزاء؛ لأنه ليس له أحد هذا المال سوف يسلمه ذلك الشيخ ويوصيه بأن يكون أجرة لمن يهتم به بعد موته .. لأن الأكيد سوف يبتعد عنه الجميع ولن يقتربوا منه .. أعاد المال وقفل الدرج ودس المفتاح تحت الفراش في مكانه السابق .
تناول حمد شيئا من الطعام الموجود لديه ،ما تبقى من الطعام الذي أحضره الشيخ له كان بعض الخبز اليابس مع مرقة لحم أغلبها عظام ولكن كانت ذات طعم جميل رغم برودتها وتصلب الدهن بها ولكن لم تفقد مذاقها الجميل .. استمتع حمد بما أكل وقرر أن يأخذ قيلولته رغم أنه لا يملك عملا غير النوم . تناول خرقة كانت بجانبه ومسح بها شيئا من الدماء على قدميه ولفهما بقطع أخرى ليحافظ على نظافة الفراش الذي ينام عليه .. لم يكن لديه ما يغطي به جسده كاملا مجرد دثار إذا غطى رأسه ظهرت قدماه والعكس فكان يحاول أن يضم رجليه لصدره ليكون كومة واحد ويحظى كل جزء منه بشيء من ذلك الدثار .. نام حمد وغرق في نومه وبدأت الأحلام التي تعوَّد عليها تطرق رأسه ،لم يكن حلمًا واحدًا بل مجموعة ،ليس بينها ترابط كل ما يذكره من أحلامه أن ينهض من نومه فزعا خائفا يتصبب من العرق الذي ينزل على جروحه كأنها سهام تزيد ألمه الذي يتحامل على تجاهله ولكن حلم اليوم كان مختلفا عن السابق .. يضحك حمد وهو نائم ويشرق وجهه على غير العادة .. يتمتم بكلمات لا يسمعها أحد غيره .. إنه يناديها في نومه ،لم يكن الاسم واضحا ولكن كان يراها .. على غير العادة ينهض بفرح دون ألم من جروحه .. يتناول الإناء الذي يضع به ماء الشرب جزء من آنية فخارية وجدها منذ فترة بجوار الفلج في القرية لعلها سقطت من يد امرأة وانكسرت وباقي هذا الجزء ليكون لحمد يضع فيه الماء حتى يبرد خاصة في حرارة الصيف .. أخذ جرعة طويلة حتى أرتوى وعاد لفراشه .. ثم ذهب مرة أخرى لصندوقه للمرة الثانية يفتحه اليوم ويخرج الصورة تلك الصورة، مرت عليها سنين لديه ولكنه يحافظ عليها بين ملابسه ،الألوان تغيرت وظهرت عليها بعض الخطوط ،غيَّبت الصورة الحقيقة نوعا ما لكنها محفورة في ذهنه لم تمتحِ فكانت الصورة في الصندوق مجرد شيء مثير ينعش الذاكرة .. اتكأ على الصندوق ومد قدميه محاولا أن يضع كعبه اليسرى بين أصابع القدم اليمنى ولكنه لا يستطيع يجب أن يبعدهما عن بعضهما بعضًا حتى لا تتأثر الجروح .. حبيبتي .. (يخاطب الصورة في يده المرتعشة )..مرت السنين سريعا منذ فقدتك، عشرون عاما مضت كلمح البصر.. كأنك كنت بالأمس معي في بيتنا في القرية .. أتذكرين ليلة زفافنا لقد كنت قمرا .. (يتنهد في داخله ) كان القمر في ليلة الرابع عشر ينير الكون خارج غرفتنا وكنتِ أنتِ البدر الذي أنار المكان داخل البيت .. قصة حبنا لم تكن عاديه لقد كانت من قصص الروايات التي تحكي .. ( ينظر إليها ) أتعرفيني كم أحببتكِ !!! لكن كان رحيلك سريعا .. من لحظات الهدوء ينهض متحاملا على نفسه ويصرخ في المكان بأعلى صوته .. كل هذا من أبيك .. لقد كان السبب في موتك .. لن أسامحه ما دمت حيا .. يبكي بحرقة وتنهمر الدموع من عينيه ،تغرق وجهه ويحس بها ،تسقط على قدميه ولكنها لا تُحدث ألما مثل السابق .. من بعد موتك لم أطق الحياة ،كرهت كل شيء .. تركت البيت ،جُبت الحواري والأزقة، كنت تائهًا لا أعرف ما يجرى حولي، أصابتني الأمراض ،ابتعد الناس عني أصبحت منبوذا من الجميع استقريت هنا في هذا الكوخ لأعيش معك فقط .. كل هذا الخطاب كان بين حمد والصورة، لقد أخرج كل ما في نفسه من آهات وآلام لعلها تخفف عنه ما كان يعني .. ملَ حمد الحياة وتمنى الموت أكثر من مرة ولكن مازال في العمر بقية وأجله لم يحن بعد .. صوت المؤذن في القرية يصل لأذن حمد فيقرر أن ينهض ليصلي . تعود الصلاة في وقتها كان يبكي في كل مرة عند الصلاة ؛لأنه لا يستطيع الذهاب للمسجد . ينظرون إليه نظرات، كلها احتقار والكل يبتعد منه ووجوده يحدث جلبة في المسجد، فآثر عدم الذهاب إلى المسجد ويؤدي الصلاة في كوخه .. على سجادة كانت أحضرتها ( مريم ) ليلة عرسها .. ما تزال رائحة عطرها تنبعث منها، صلى ما عليه وقرر البحث عن الشيخ حتى يُسلمه المال فلا يدري متى يحل أجله .