دوامة الحياة / الفصل السادس والأخير “يحيى”
سليمان بن حمد بن مسعود العامري
يجب علينا أن نرضى بما كتبه الله لنا٬ لأننا نؤمن بالله إيمانًا صادقًا لا ريب فيه ولا شك٬ فالإنسان خُلق في هذه الدنيا، وكُتب عليه أن يعيش في دوامتها، دوامة الحياة، ما بين فرحٍ وترح، ونعيم وشقاء.
سقط عيسى مغشيًا عليه، عندما نادى الدكتور بصوتٍ مبحوح، يا عيسى، فَقَدِمَ عيسى إليه حاملاً بعض الأمل، فنظر إليه الدكتور نظرة، فعرف عيسى بعدها بأن عمه الذي كان بجواره قبل قليل منذ سويعات، قد دخل في غيبوبةٍ حتى توفاه الله.
سمع عيسى صوتًا يُناديه كصوت سارة: “قُم يا عيسى، قُم.. أرجوك”٬ حاول عيسى فتح عينيه، ولم يستطع.. حاول أن يستجمع طاقته وأن يضغط على نفسه، جسمه صار بالٍ وضعيف، لا يقدر على النهوض٬ ولكن فجأة استقام مع شعورٍ غريبٍ يرافقه، كان يسمع أصواتًا تناديه، يحاول الرد عليهم، ولكن دون أن يستجب له أحد، يراهم مجتمعين على شيء، وعندما نظر على ماذا يجتمعون، وجدَ نفسه مُلقى على الأرض، وبعد وقتٍ بسيطٍ من الزمن، أحسَّ بأنه يُرفع إلى الأعلى، ويرى كل شيء، يرى إخوانه، ووالديه، وهناك كسراب يرى إخوة سارة، ينتظرون رجوع والدهم٬وفي لحظةٍ اختفى كل شيء، وهو يسأل ويقول أين أنا يا إلهي؟
كيف يشعر الإنسان أنه خفيف جدًا، شيء ما يرفعه للأعلى، لربما ريح، أو على متن غيمة!
نور على امتداد بصره، وسكينة يشعر بها في روحه، يحاول عيسى الوصول إلى نقطة بداية النور، يحاول أن يعبر ويتخطى ليعرف أين هو، وفي طريقه يرى سارة تقف هُناك كما رآها أول مرة جميلة وبهية، وعمّه وعمته في نفس المكان، كأنهم بانتظارِ شيء، أو يريدون شيئًا منه.
قبل الوصول إليهم، نَطق عمه بسرعة بجملةٍ بالكاد سمعها عيسى: “اصبر يا عيسى وسيجزيك الله خيرًا، اصبر وصُن الأمانة.”
وتلاشوا بسرعة من أمامه، كانت رسالتهم سريعة، أراد الاقتراب منهم ولكنهم ابتعدوا عنه، الخوف بدأ يملأ قلبه، أين أنا يا إلهي، هل مت، هل أنا في العالم الآخر، يوجد بوابة كبيرة هناك بعيدة جدًا عنه، تُفتح البوابة وإذ خلفها يوجد شيء يشبه الجنة، أرض مكسوة باللون الأخضر، زهور وأشجار، ينابيع، وفراشات تطير، أصوات عصافير تزقزق، في نفسه يقول: أنا بلا شك، فعلاً ميت ولا تفسير لذلك، هل أقرصني لعلي أعرف إذا كنت في حلم أو علم.
جاءته سارة فأمسكت بيده وقالت: “هذا المكان ليس لنا، يجب أن نخرج منه الآن يا عيسى، حاول أن تستفيق بسرعة وإلا بقينا هُنا وهُناك من ينتظرنا… هيّا يا عيسى أرجوك، دعنا نخرج.”
حاول عيسى أن يستفسر، أن يسأل، لكنها أسكتته، وأمسكت بيده وركضا إلى مكان مرتفع وفجأة قفزا، هذه القفزة جعلت عيسى على السرير وكأنه ساقط من مكان مرتفع، يفزُّ من مكانه..
فتح عينيه، وأخيرًا وجد سارة بجانبه، تمسك يده، وتناديه، تهمس بأذنه أنها تحتاجه، وأن لديهما حياة تنتظرهما وبيت يعمرانه، وإخوتها وهي لا سند لهم سواه بعد الله سبحانه وتعالى.
استفاق، فقال: هل أنتِ بخير يا سارة، حمدًا لله على سلامتك، لقد اشتقتُ لك كثيرًا، لماذا أنا هُنا وأنتِ هُنا؟
ردت سارة: صحوت يا عيسى، ظننت أنني حين أقف على قدماي ستكون أنت وأهلي أول من أجدهم بجواري، ولكن لم أجد أحدًا، فسألت الممرضة عنكم فقالت أن عيسى قد أُغمي عليه وطلبت التأكد من أنك عيسى الذي أقصده وفعلاً كنت أنت، فأتيت إليك وجلست بجوارك.
ينظر عيسى إلى سارة وأراد أن يخبرها بكل شيء ولكنها لم تكن سارة، كان مجرد خيال، ونظر فإذا بالممرضة تخبره أنه من ساعة وهو يتحدث مع نفسه بصوتٍ عالٍ، هذا تأثير الصدمة.
سألها: هل يعني أن سارة لم تكن هنا؟
أجابت: لم يدخل أحد هُنا من أقاربك، بل لم يدخل هذه الغرفة غيري أنا والطبيب وفريق التمريض.
بتعجب ودهشة ردّ عيسى: ماذا!!!
دخل الطبيب على عيسى، ونظر إلى فحوصاته وقال له: حمدًا لله على سلامتك، لقد أقلقتنا عليك.
ثم أكمل حديثه، يا عيسى أنت رجل قوي ومؤمن بقضاء الله وقدره، تعرف أن الدنيا دار ابتلاء وعلى المؤمن أن يصبر، وأن يرضى بما كتبه الله له، وما علينا سوى الدعاء للميت بالمغفرة وأن يتقبله الله في جنته.
عيسى يحاول التذكر، عن مَن يتحدث؟
الطبيب مكملاً، عمك حاول أن يظل ولكن مصابه جلل، فلم يتحمل وفارق الحياة، وأنت بعدها أُغمي عليك.
قاطعه عيسى بسؤاله وسارة، كيف حال سارة؟
أخبره بأنه سيخبرها بحالها حين يستجمع قواه ويصير حاله أفضل، وطلب منه أن يتصل بأحد معارفه، ليستلما عمه، أمسك الهاتف واتصل بعمر..
– عُمر، تعال يا عمر إلى المستشفى المرجعي بسرعة.
= صوتك يا عيسى، ليس بخير… ماذا حصل؟
– عمي، بجوار ربه الآن..
= ماذا!!! ماذا تقول يا رجل؟
– تعال يا عُمر.
كُل ذلك كنت أتذكره وأنا أشكو للشيخ هَمي وما مررت به طوال الأيام الماضية، أشهر قضيتها بالمستشفى، عمتي أولاً، ثم عَمي، من كان يعتقد أن هذا سيحدث يومًا، أو أنّ هذه العائلة التي كانت بالأمس واقفة تودع ابنتها التي ذهبت لتكمل تعليمها، سيحدث معها كُل هذا.
يُقاطعه الشيخ، أنت مؤمن يا عيسى ولا أحد يعرف ما يخبئه له القدر، ولكل نفس أجلها.. نحن لا نعلم متى وكيف ولكن نعلم أنّ علينا أن نستعد لذلك اليوم جيدًا، وأن نرضى بما كتبه الله لنا ولأحبتنا، فلله ما أخذ ولله ما أعطى.
المُهم يا عيسى، أن تكون قادرًا على حمل الأمانة التي كُلفت بها، أعلم أنها ثقيلة، وتعرف أن الجبال رفضت حملها لثقلها وحملها الإنسان، فأدعو الله أن تكون قادرًا عليها وأن يعينك الله.
أكمل يا عيسى، أخبرني عن سارة.
يكمل عيسى، سارة يا شيخ، وجه القمر وخفة الفراشة، التي بصحبتها رأيت ألوان الحياة، كانت فراشتي ووردة العسل في حياتي، ولكن فجأة انقلبت حياتنا وهي الآن لا تستطيع الحراك، تحرك أصبعها وتومئ برأسها، تحاول النطق بكلماتٍ أحاول فهمها، لا أستطيع، تنظر إلي بعينيها، فأفهم ما فيهم، أفهم أنها تحمل حُزنًا وخوفًا، تخبرني ألا أتركها، أُقبل رأسها وأقول أنا معك يا سارة، ستقفين على قدميك مرة أخرى، وسنعيش حياتنا التي حلمنا بها وخططنا لها.
سعيت جاهدًا لأعالجها، بحثت عن أفضل الأطباء والمشافي، سافرنا لدولٍ عديدة، لقد مر عامان على كل هذا، وأنا بين سارة وإخوتها، أتابع معهم دروسهم وألبي احتياجاتهم.
تضغط سارة على نفسها لتقول لي تزوج يا عيسى واتركنا، دعنا ننفصل، الأمور هذه ثقيلة عليك، وأنت في ريعان شبابك، كُل كلمة من هذه تنطقها سارة وهي تضغط على نفسها.
وأنا أطمئنها بأننا سنعيش ما حلمنا به، سنرقص في عرسنا المؤجل لحين إتمام علاجك.
وتقاطعني هي بأنه لا أمل، وهي أمل أيامي وضحكة الصباح التي أتمنى أن تعود مجددًا.
يا عيسى، ادعُ الله بقلبٍ تيقن بأنّ الله هو السميع المجيب، وقُل يا مفرج الكرب، فرّج كربي وأزل الغمّة… الله لطيف بعباده، لا تيأس يا عيسى.
تنهيدة طويلة من عيسى، وفجأة رنّ هاتفه، المتصل أحد الأطباء الذين يتابعون حالة سارة.
استأذن عيسى من الشيخ ليردّ على هاتفه..
– السلام عليكم، عيسى يتحدث، تفضل..
= وعليكم السلام، أنا الطبيب أحمد المُتابع لحالة سارة.
– ها، دكتور تفضل، خير هل هناك خطب ما؟؟؟؟
= أرجو منك القدوم لمكتبي أردت الحديث معك، لأمر خير.
– خير، أنا قادم انتظرني.
قال للشيخ أن أحد الأطباء بانتظاره، ادعُ لي يا شيخ، ولا تنسانا من دعائك في صلاتك.
دعا له بصوتٍ عالٍ، أن يعود إليه مجددًا وهو يحمل بشارةً تسره.
وصل عيسى إلى المشفى وسأل سكرتير الطبيب، فقال له أنه بانتظاره، دخل بسرعة لعنده وسأله بلهفة ماذا، أي خير؟
عيسى الذي عاش في دوامة لعامين، متلهف بشدة لأي خبرٍ سعيد.
قال الطبيب: أنت تعلم أن الطب كل يوم يتطور عن اليوم الذي قبله، وأن لكل داءٍ دواء بإذن الله تعالى، وعلى مدار عامين وأنت تركض وتسعى ولربما هذه المرة هي المرة الأخيرة والتي سيكون فيها الشفاء بإذن الله تعالى.
عيسى: ماذا تقصد، لم أفهم؟
الطبيب: انظر يا عيسى، بناءً على الدراسات فإن المشكلة موجودة بالأعصاب وعلاجها سيكون كالتالي…
بدأ الطبيب يشرح، ماذا وكيف ولماذا وكل الخطوات، ومدة العلاج، وختم بأن المخاطرة عالية ولكنها تستحق هذه المرة، وفريق العلاج من سلطنة عُمان، وثمة وفد طبي ألماني سيكون معنا في العملية.
عيسى: أنا لا أريد أن أفقد سارة، ولا أريد أن أخاطر بها، وقبل أن أوافق عليّ استشارتها.
عاد عيسى إلى البيت ومهد لها قبل السؤال، وبلا تردد، هزّت رأسها على أنها موافقة.
أسبوع للتحضير قبل العملية، مدة العملية ٢٤ ساعة، كانت عدة عمليات متتالية، أنا على الباب، فريق يدخل وفريق يخرج، وطبيب يسلم طبيب.
وحدات دم، معدات طبية وأجهزة تدخل إلى غرفة العمليات، وأنا أسأل ولا أحد يجيب.
انتهت العملية ولكن النجاح أو الفشل مرهون بالساعات القادمة، علينا الانتظار لنرى النتيجة.
مرّ اليوم الأول والثاني والثالث ومرّ أسبوع، سارة على حالها الذي دخلت عليه قبل العملية.
جاءت الممرضة وقالت: اليوم يا سارة لن نستخدم أي مسكنات أو مخدر، عليكِ أن تتحملي الألم، ومن ثم وجهت الخطاب لي فقالت: أي صراخ منها أو بكاء، أتمنى ألا تقلق وأن تحاول حثها على الصبر والتحمل، فكل شيء بخير.
جاء فريق الأطباء الذين قاموا بالعملية، وبدأت مرحلة نزع الضماد لمراقبة تحسن الجروح، وبحمد الله كانت في حالة التئام تام وتحسن ولا تقرحات أو أي التهابات.
الآن اللحظة التي يتحدد بها مصير نجاح العملية أو فشلها، مراقبة مدى إحساس الأعضاء الطرفية، بدأ الطبيب يسأل سارة، هل تشعرين بهذا، وذاك ومدى إحساسك بالشيء.
طلب منها أن تضغط على القلم فلم تستطع، كادت تبكي، فطلب منها عيسى ألا تبكي وأنه لا بأس غدًا سنحاول من جديد.
أمسك بيدها وحين أراد إفلاتها أمسكت بها بقوة وضغطت، كان الأطباء حينها على وشك الخروج من الغرفة، فنادى عيسى: انظروا إنها تضغط على يدي…
التف الأطباء وعادوا إليها، أحسنت يا سارة، الآن حاولي تحريك قدمك يمينًا أو يسارًا، حاولت ولكنها كانت خفيفة جدًا بالكاد تُلاحظ، طلبوا منها ثني ساقها، هُناك استجابة.
الطبيب: مبارك يا عيسى، علينا البدء بالعلاج الطبيعي، غدًا سنبدأ به وسنعمل على وضع خطة علاجية متكاملة، وبإذن الله كل الأمور ستكون بخير.
الأيام كانت تركض بسرعة، وسارة تحاول وتسعى، لكنها لا تستسلم أبدًا، بدأت تخطو من جديد على قدميها، ولكن يجب أن ترتكز على أحد، وأنا لا أسمح بأن ترتكز على أحد غيري، أكون أسعد الناس حين أراها تخطو، ومن خطوات صغيرة عادت تمشي، اليوم سارة تمشي مثلنا، أما عن يديها الرقيقتين فصارت تُعد لي أطيب إفطار ويُمكنها لمس شعري، وتحسس وجنتي، سارة اليوم بخير.
كنت قد عزمت أن أقيم فرحنا المؤجل، في اليوم الذي أراها فيه واقفةً على قدميها وتستطيع السعي والمشي والتحضير له.
أخبرتها بنيتي أنني أريد أن أقيم فرحًا لعلنا نعيش أجواء الفرح بعد كل هذا، وهذه كانت نية عمتي ووصية عمي.
وأنا مستعد لتلبية رغباتك وشراء كل ما تحتاجينه، لتكوني أميرتي وفراشتي ووردتي الجميلة.
سارة: أنت يا عيسى، نعمة من الله، رزقني إياك وأنا سعيدة أنك بجواري ولم تتركني يومًا ولا أريد من هذه الدنيا سواك.
إخوة سارة، نريد فرحًا وأن نراك عروسًا تطلين بالأبيض علينا، هذا البيت آن له الأوان أن يفرح.
أقيم الفرح، كان متواضعًا لأن حزنهما لم يجف بعد، وجرحهم لم يلتئم ولكن كانت سارة فرحة وعيناها تضحكان، وإخوتها يلتفون حولها، كان مشهدًا يشبه الفراشة حول الزهور، كانت سارة الفراشة وإخوتها هم الزهور.
وأنا لربما كُنت الشمس في هذه الحكاية، جاءَني الشيخ ليقول لي: ما بعد الضيق إلا الفرج، وأنت يا عيسى صبرت ونُلت.
عادت حياتنا سعيدة، ومرت الأيام والأشهر، لتأتي سارة وتخبرني بأنها حامل وأنه سنرزق بطفل عمّا قريب.
جاءَ طفلنا الأول والذي أسميناه باسم عمي، والد سارة ودعونا الله أن يكون مباركًا سعيدًا في حياته وأن يكون قرة عين لنا، وأن يحيا يحيى حياة تشبه وجهه الضاحك الجميل.
هذه هي الحياة، أيامها المتقلبة بين لحظات السعادة والحزن، إذا استسلمت لدوامتها ستغرق، لذلك لم أستسلم، رضيت وكافأني الله بذرية صالحة وزوجة بوجه يشبه البدر وإخوة لطفاء، عائلتي التي لا حرمني الله إياهم.
فاللهم أنت تعلم أكثر مني، فلا تتركني طرفة عين لنفسي ودبر لي فإني لا أحسن التدبير.