2024
Adsense
مقالات صحفية

عوّض ما فاتك قدر المستطاع

خلفان بن ناصر الرواحي

الأعمار تمضي قدمًا والحياة متسارعة، ولا ندرك منها إلا القليل، فكم من الوقت قد ضيعناه دون فائدة وضاع هدرًا! وكم أفنينا من أعمارنا وأبلينا دون أن نعي ما نفعله أهو خير أم مهلكة؟! وليتنا استفقنا من غفوتنا قبل فواتِ الأوان، وكم تمنينا أن نرجع للوراء – وليته يكون- فما فات أصبح ماضيًا، وما ندركه اليوم قد يكون مراجعة وتصحيحًا لمجريات الأمور، ولعلّنا نسترشد ببعض الدروس من تجربة الحياة، وربما لا ندرك أنفسنا؛ فنستمر في ذلك الوهم والضياع والغفلة.

فالإسلام ينظر إلى الوقت والعُمر على أنّهما من نعم الله الجليلة علينا، والتي يجب ألا تُهدر دونما استغلال، فهي تعود على الإنسان بِخَيريّ الدنيا والآخرة، وقد حثّ الرسول الكريم في أحاديثه على اغتنام الوقت، واقتناص الفرص لتحقيق النفع الكبير، وينهى عن الكسل والدَّعة والتراخي؛ فالوقت يمرّ سريعًا ولا ينتظر أحدًا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يعظه: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ). [أخرجه الحاكم في المستدرك].

فهذه الأمور الخمس التي حثّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- على اغتنامها جميعها مرتبطةً بالوقت وحسن إدارته واستغلاله، ومعنى الحديث أنّ هذه الخمس هي أيام العمل والقوّة والإكثار من الطاعات، فمن فاتهُ العمل فيها فلن ينفع الإنسان عندها الندم على ما فرّط في زمن القوة؛ حيث إنّ بعد القوّة الضعف، وبعد الشباب الهرم، وبعد الصحة المرض، فمن فرّط في أيام شبابه فلا يُمكنهُ تدارك ما فاته في أيام كِبره. كما لا ينبغي للإنسان أن ينسى نصيبه من هذه الدنيا؛ حيث يقول تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾- [ سورة القصص: 77]

كثير منا من تصيبه الغفلة، وربما تطول غفلاته، وتكثر زلاته، وقد يقع في كثير من المخالفات، ويرتكب الكثير من الأخطاء في حق الله، وحق نفسه، أو من يعول سواء من أسرته أو قرابته، ومجتمعه، ووطنه، أو ربما حق البشرية، وقد تكثر عند بعضنا وتقل عند آخرين، وقد يتمادى الغالبية منّا ويغلب عليه التسويف، ويصل به الحال إلى الغرق في غياهب جُبِّ الغفلة؛ ويصبح حينها أسيرًا للحزن والحسرة والندم دون تدارك نفسه للخروج منها، أو تلمس حبل النجاة والاستعانة ببعض المسببات التي تنقذه من ذلك الوهم، وربما يقع بعضهم في الوسواس القهري الذي يمكن أن يتسبب في زيادة الأمور تعقيدًا، وربما يؤدي إلى الهلاك.

نعم، هناك فئة من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصير، ويحزن على ما فات من عمره، وهو أمر محمود ولا بأس به إن كان في حدود المعقول وبما لا يضر به وبالآخرين؛ فالحزن على الخطأ والزلل والتفريط في الوقت والأعمال في أي وجه من الحقوق سواء المتعلقة بالله أو بمخلوقاته، والندم على ذلك؛ لا شك علامة من علامات صدق الرجوع والتوبة وتصحيح المسار، بل هو من سمات أهل العقل والفطنة والكياسة.

كما أن هناك فئة أخرى من الناس من يسرف في الوهم والتسويف، ويتألم من واقعه، فهو دائمًا يستحضر الذكريات الماضية وخاصة الأليمة والقاسية ويتذكرها، ويتصورها كأنها شبح مستعصٍ، ويكتئب ويحمل الهموم والأحزان، ويقف عند محطاتها طويلًا ولا يكاد يتجاوزها، فلا يزال كذلك حتى يضيع عليه حاضره، ويقطع عليه مستقبله، ولا يستغل الفرصة؛ لكي يستعيد توازنه، ويعيش بصفحة جديدة ناصعة البياض، فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيعه في الحزن والألم، فيضم إلى المصيبة مصيبة، فيصبح أسير الكآبة والحزن،فكأنما ضاقت عليه الأرض بما رحبُت، وتشوّهت الأنفس من اليأس، حتى اسودت الدنيا؛ فإذا النفوس ترحة متفتقة!.

نقول لأمثال هؤلاء: بماذا يفيدك البكاء والتحسر على ما فات؟ فما فات قد انتهى وولى دون رجعة، ولن يعود مهما سكبنا الدموع ومهما أنّبنا الضمائر، وكل لحظة مضت فلن نتمكن من إصلاحها ولا العودة للوراء لتصحيحها؛ فلنعش واقعنا، ونعوّض بما هو خير منه، فإن المصيبة وقعها مؤلم، وينبغي أن تخفف عن القلب وتُدفَع؛ وإلا أفسدت علينا الحاضر والمستقبل، فحينها نكون قد خسرنا الماضي والحاضر والمستقبل جميعًا.

نعم، إنه من الصواب أن يراجع كلٌّ منا نفسه، ويعرف تقصيره وعيوبه من أجل أن يستدركها، لكن اجترار الهم والحزن والأمور المنغصة من أجل تكرار الألم، والتثريب ليس بمرغوب ولا مطلوب، فلنتعرف على عيوبنا من أجل أن نستدركها، ونتعرف على الخطأ من أجل ألا نقع فيه في الحاضر والمستقبل، ولا نلتفت إلى الماضي كثيرًا إلا من باب العبرة واستخلاص الدروس، وعلينا دائماً أن نصوب نظرنا إلى الإمام، ونبدأ حياة جديدة، ونستقبل بكل تفانٍ وإخلاص أمرًا جديدًا يزيح عنا كآبة الماضي، ونتطلع بحول الله وتوفيقه عملًا نافعًا مجديًا في مختلف جوانب الحياة الكريمة التي سوف تحقق لنا الرضا من الله ومن نعول، والمجتمع، والوطن؛ ليبقى الأثر الطيب الخالد، معوضين ما فات قدر المستطاع.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights