2024
Adsense
قصص وروايات

قصة : ذنب لا يغتفر ( الجزء الأول)

بقلم : بلقيس البوسعيدية

في صباح يوم الجمعة استيقظت مبكرًا على صوت الريح وهي تهزّ النافذة، والمطر وهو يضرب زجاجها، وقفت على شرفة المنزل المطلة على أشجار النخيل الشامة، أحتسي كوب الشّاي الذي أعددته لنفسي، فجأة وأنا غارقة في لجةِ صمتي تناهى إلى سمعي صوت طرقات متواصلة على الباب الرئيسي للمنزل، طرق يوحي بالخوف، ثم صوت جديّ ينادي عليّ:
“نيلام… نيلام، هل أنتِ بالداخل؟”. انتفض قلبي؛ وهرعت مسرعة لفتح الباب.
بدا وجه جدّي شاحبا وجافّ الملامح، كأنه رقعة أرض أصابها الجفاف فتشققت، في عينيه نظرة قلق زرعت الخوف في قلبي الصغير. ألقى السلام ومدّ يمينه وصافحني بيد شديدة البرودة، فرددت السلام، وقبلت رأسه ثم انحنيت لتقبيل يده الشريفة.

لم يعتد جديّ على مصافحتي بهذا البرود من قبل، سألته بصوت خافت:
“جديّ، هل أنت بخير؟”.
“أين والدك؟”، قالها وهو يفتش بعينيه الضائعة في أرجاء المكان.
اعتاد والدي أن يذهب إلى المزرعة في صباح كل يوم، ثم لا يعود إلا لتناول طعام الغداء، وليستريح بعده في سريره ساعتين، يخرج بعدها من جديد إلى المسجد لأداء صلاة العصر ولا يعود حتى غروب الشمس. قلت في عجالة:
“خرج إلى المزرعة منذ الصباح الباكر كعادته يا جديّ”.
خلع فردَتي حذائه الملطختين بالوحل على مدخل البيت وصفهما بعناية، ثم دلف إلى الداخل وقد نفد المطر إلى جسده، خلع عمامته السوداء، وانساب على كتفه شعره الأبيض الطويل الذي لطالما جعله يبدو أكثر تقدمًا في العمر ممّا هو عليه بالفعل، ثم جلس على أقرب كرسي قائلاً بنبرة مخنوقة:
“احضري لي كوبا من الماء.”

أحضرت له كوب ماء من المطبخ، شرب منه قليلا، ثم سألته باستغراب:
“لماذا جئت تبحث عن أبي وأنت تعلم أنه يكون في المزرعة في مثل هذا الوقت تحديدًا من كل يوم؟!”، لم يجب عن سؤالي، واكتفى بأن طلب منيّ أن أعدّ له فنجانًا من القهوة.

كنت أنتظر أن يقول شيئًا غير أنه راح يحدّق في وجهي بتأمل شديد. هدأت الأمطار قليلًا، فلبست عباءتي الكحيلة وطرحتي البيضاء، واستأذنت منه للذهاب إلى أبي في المزرعة؛ لأخبره بأنه موجود في انتظاره. وفي ذات اللحظة سمعنا صوت طرقات عنيفة تعالى صوتها على الباب، إنه عمي (رسلان).
استعادت عينا جدي الكامدتان بريقهما حين دلف عمي إلى المنزل وهو ينادي عليه بصوت مفجوع:
“أبي!.. أبي!”.

ظن جدي بأنه سيسمع من عمي خبرا سارا، ولكن وجه عمي كان يوحي بتعرضه لصدمة ما. ما زال جدي قابعا في كرسيه والدهشة ترتطم بوجهه، يده ترتجف لا أدري من الخوف أم من شدّة البرد، ثم وقف بحماس وهو يسأل عمي:
“هل من أخبار مطمئنة؟ هل ما قاله أهل القرية صحيح حقا؟!”.
انتابني شعور بالهلع، بدأ الخوف يتسلل إلى قلبي، والقلق يسيطر على عقلي، أدركت من عيني عمي المسبلتين بأن شيئا سيئا قد حدث فعلا. ابتلع غصته بصعوبة قاتلة ثم أجاب بصوت مبحوح:
“مع الأسف، ما قاله أهل القرية صحيح يا أبي.”
اسود وجه جدي من هول ما سمع؛ وراح يقلب كفيه والدمعة في عينيه تفضح انكسار قلبه، وأخذ يردّد:
” إنا لله وإنا إليه راجعون”.

وضعت يدي المرتجفة على كتف جديّ، حاولت أن أسأله مجددا ما الذي يقصده عمي، ولكن الخوف أخرس لساني الطلق عادة؛ فلم أنبس بكلمة. نظر جدي نحوي ولمح الفزع المرتسم على وجهي، فقال محاولا تخفيف وطأة الخوف على قلبي:
“كان يحبكِ كثيرا، ولطالما أوصاني عليكِ في الأيام الماضية، وكأنه كان قد شعر بدنوّ أجله. وضعكِ أمانة في عنقي ورحل”…
صمت برهة ليلتقط أنفاسه ثم أردف قائلا بصوت حزين:
“لا تخافي يا ابنتي، ما دمت أنا موجود فلن يمسكِ ضرّ، اصبري ولندعو له بالرحمة والمغفرة، فكل ما يحتاج إليه الآن هو دعاءنا له”.

انهمرت دموعي فأخذني جدي بين أحضانه يهدهدني ويمسح على رأسي، سمعت خفقان قلبه المضطرب الممزوج بالحزن والخوف، أدركت مدى بشاعة اللحظات التي نحن فيها حين انعقد لسانه وسقطت دمعة ساخنة من عينيه على وجهي الحزين. لطالما أخبرني والدي بأن بكاء الكبار يعني حزنا عظيما.

أصابني الخدر في الروح وبقيت صامتة لساعات كصخرة صمّاء. رفض قلبي تصديق ما قاله جدي، حتى بدأ أهل القرية والقرى المجاورة بالتوافد تباعًا، والتجمع حول منزلنا؛ لتقديم واجب العزاء والمواساة. أقيم العزاء لستة أيام عكس طقوس العزاء التي اعتاد عليها أهل القرية، فقد قضت العادة أن يقام العزاء للميت ثلاثة أيام. لم يتمكن أحد من إخراج جثمان والدي من البئر الذي سقط فيه رغم الجهود التي استمرت لأكثر من خمسة أيام بلياليها. أخذني جدي إلى المزرعة تلبية لرغبتي، فخيّل إليّ صوت والدي وهو يضحك في قعر البئر؛ فأجهشت بالبكاء حتى كادت ملامح وجهي أن تذوب حزنًا، اختنق صوتي فلم أستطع أن أنطق بشيء رغم الكلام الكثير الذي وددت أن أقوله لوالدي.

بعد أن اجتاح اليأس أرواح الجميع، اتفق جدي وعمي مع أهل القرية على ردم البئر وغرس حجر منقوش عليه اسم والدي وتاريخ وفاته كشاهد لقبره. غرس جدي نبتة صبّار فوق القبر وتعهّد بسقيها بين فترة وفترة؛ في اعتقاد منه بأن النباتات فوق القبور تستغفر للميّت طالما أنها رطبة. حينها فقط أيقنت بأن ما يحدث هو أمر حقيقي، وواقع مرّ لا مفر منه. صار البيت فارغًا برحيل والدي إلا من طيفه وصدى صوته العالق بين جدرانه. غططت في النوم ليوم كامل كالجثة الهامدة، استسلمت للحزن وعشت أياما سوداء لا يدرك مدى بشاعتها سواي، لقد مات أبي، وتركني وحيدة كما فعلت أمي قبل أكثر من خمسة عشر عاما حين اكتشف والدي ذات يوم خيانتها؛ فطلقها رافضا وجودها في حياته. تركتني أمي وأنا ما زلت رضيعة في مهد أبيض، تفوح منه رائحتها العطرة التي ما زالت مقرونة بأنفاسي، ما يزال دفء صدرها يقي روحي بردّ غيابها حتى هذه اللحظة وإلى الأبد.

تزوجت من (عمي رسلان) فور انقضاء عدتّها دون أن تكترث لوجوه أهل القرية الشامتة وألسنتهم الجارحة، تزوجا رغم أنف القبيلة ورفض جدي لزواجهما، لم أرَ وجهها مذ أن كنت صغيرة إلا من بعيد، كنت أسترق النظر من الشرفة في غياب والدي عن المنزل، كانت تفترش الأرض يوميا في ساعة عصريّة في فناء منزلها مع جاراتها في حلقة دائرية، وددت دوما لو أنني أركض نحوها وأرتمي بين أحضانها طفلة صغيرة كما يوم تخلت عني وأنا في أمس الحاجة إليها ولتربيتها، حنانها، وعطفها، ولكن قلبي يرفض تلك الأمنية التي تموت فيَّ حين أراها تحتضن أخواتي من زوجها (عمي رسلان). لم يستطع والدي سدّ الفراغ الذي تركه رحيلها في قلبي، رغم أنه قد بذل كل ما في وسعه من أجل راحتي وسعادتي وسد ثغرة غيابها. عشت طوال عمري يتيمة من دون أمي، وها هو إحساس اليتم يعضّ على قلبي، ويهشّم روحي مرّة أخرى برحيل والدي.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights