أجنحة مبتورة
بلقيس آلبوسعيدية
قبل أكثر من خمسةِ عشر عامًا دلفتُ إلى مجلس الضيوف في منزلنا، فجأة ودون إنذارٍ مسبق، لم أعلم بوجودهِ معهم، لم ألتقِ به من قبل، ولم أكن أعلم من يكون. كنت فتاة صغيرة آنذاك، كالوردةِ المبتلة بالنّدى تتمايل مزهوةً مع النسيم العليل في حقلٍ ريفي، كنت صغيرة لم يكبر جناحي بعد، كطائر بوم بعيونٍ واسعةٍ تملؤها دهشة الحياة، هو رجل متقدم في العمر يجلس على الأرضِ بين أبي وإخواني في حلقةٍ دائرية، كانوا يفترشون الأرض في ساعةٍ عصرية وأمامهم تمر وقهوة عربية تفوح منها رائحة الزعفران التي تبحر بك نحو عالمٍ ساحر، إلا أنني لحظتها شعرت وكأنني أغرق وسط فناجينهم التي تجمدت بين أيديهم وهم ينظرون إليّ مندهشين من ظهوري المفاجئ وسط سيل ضحكاتهم، جفلت ما أن سقطت عيناه الغريبة على وجهي الصغير المستدير، وقفت منتصبة أمامهم كشجرةٍ عملاقةٍ تعصف بها الرياح، تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال، بملامح جامدة وعيون مرتجفة حائرة تفتش عن وجهِ تألفه.
عمّ الصمت مجلسهم، وابتلع السكوت كلماتهم وضحكاتهم، جفت ملامحهم، وكأن فصل الجفاف اجتاح وجوههم مبكرًا إلا عيني ذاك الغريب ظلتا تفحصاني وتقلّبان في صفحاتِ وجهي بدقةٍ وفضول، تراجعت بضع خطوات للوراء، وانصرفت للخارج بسرعةِ البرق، حينها لم أكن قد بلغت السادسة عشرة من عمري، كنت كالنسمةِ العابرة في ليليةٍ هادئة، ناعمة الخطوات، خفيفة الحركة كريشةِ طائر تداعبها قساوةُ الرياح.
لقد لمحت ملامحه لثوانٍ، كان رجلا في الأربعين من عمره، نحيفا، باهت الوجه، كبير الأذنين، ذا شارب يزحف فيه الشّيب، أصلع الرّأس واسع العينين، أفطس الأنف، ضخم الشفتين، يرتدي ثوبًا أبيض بدا مقاسه غير مناسبٍ له خاصة مع بطنه الكبيرة، أوجست منه خيفة في نفسي.
عدت إلى غرفتي برأسٍ مثقل بالحيرة، طفرت إلى ذهني جميع علامات الاستفهام، يا ترى من يكون ذاك الغريب؟ ولماذا يجلس في مجلسنا؟ ولمَ أحس بهذا الكمّ من الخوف؟ لمَ كل هذه الأحاسيس المتضاربة في صدري؟
بقيت ساعات طويلة مستلقية على سريري الازدواجيّ، فاتحة عيني في الفراغ، تساورني الشكوك، فلم أستطع كبح فضولي وتساؤلاتي لأعرف من يكون، لأجد جوابا يقشع غمامة التفكير عن عقلي المضطرب.
خرجت من غرفتي متوجهة إلى غرفة أمي، شعرت بانطفاءِ الحماس في خطواتي؛ فتوقفت فجأة حين وصلت لنهاية الطريق الفاصل بين غرفة أمي والصالة، لم أرد أن اختلس السمع، ولكن كان خوفي من أن يصمت إخوتي حين أجلس بينهم، كما يفعلون في كل مرّةٍ يحيكون فيها أسرارهم ببراعةٍ وهم يصطفون في حلقةٍ دائرية بين أبي وأمي، بدت أحاديثهم أصواتًا فقط من دون كلماتٍ واضحةٍ على الإطلاق، انسحبت ببطءٍ وهدوءٍ ببراعة الضباب، وعدت إلى غرفتي وأنا أحس الاضطراب يساورني من جديد. لقد أضرم ذاك الغريب نار الحيرة فيّ وغادر مجلسنا، ولكنه ما غادر عقلي، ما رحل مني، أشغل تفكيري به.
من هو يا ترى؟! من ذاك الإنسان الغريب الذي هز قلبي وعبث بموازين أحاسيسي؟
شتّت رنين الهاتف أفكاري وشقّ سكونيّ، وبيدٍ كسولةٍ مددتها إلى السماعةِ ورفعتها إلى أذني، وعقلي ما يزال يسبح في لجةٍ من الحيرة والقلق، ويأتيني صوت أختي نايًا حزينا مبعثر النغمات…
“مبارك يا عروس”.
اِنسكبت نبرات صوتها الحارقة في مجرى شراييني، اخترقت كلماتها عظام صدري كنصلٍ حادٍ ثم قلبي الصغير؛ فمزقته.
شلّ لساني وجمدت في مكاني، لم أعرف ماذا أقول، أغلقت سماعة الهاتف والدمع يفيض من عيني كنهر جار، غمرني حزن شديد، عاودت أختي الاتصال بي لأكثر من عشر مرات، لكنني لم أجب، وبعد مرور عشر دقائق بعثت لي برسائل نصيّة وأخرى سمعيّة بصوتٍ مخنوق، كأن حجرًا يسدّ عليه منافذ الهواء، تواسيني كما واست نفسها قبل خمس سنوات من ليلةِ زفافها، حين فرض عليها والدي الزواج من رجلٍ عجوز طمعًا في ثروتهِ.
أنا وأختي اليوم لا نستطيع التحليق؛ قصوا جناحينا مبكرًا، وحالوا بيننا وبين الحريّة والحياة، ماتت أحلامنا البكر في ظلمةِ الأنفاق قبل حتى أن تبلغ النور، لم يعطنا المال سعادة ولا العيشة الهانئة بين أحضان رجلين عجوزين جعلتنا نشعر بأننا حيّتان، لم نجد منهم سوى كلماتٍ قاحلة، وحياة بائسة كل ما فيها أشبه بالممات، لم يعد يدهشنا لون السماء؛ فلون سمائنا منذ زواجنا رماديّ قاتم، لم تعد لدينا رغبة التحليق، بتروا ذراعينا، رمونا في منفى بعيد بلا حولٍ ولا قوةٍ، ولا قيمةٍ، فما قيمة الإنسانِ دون جناحيهِ؟!