القروي والعاصمة.. (14-15)
خميس بن محسن البادي
في الجزء الماضي تابعنا كيف انتهى الهجر الذي اتخذه شكيل في حق سهيلة وعاد معها للعيش في بيت الزوجية مقابل الشروط التي أملاها عليها، وقد اتفق معها على أن ترافقه إلى القرية بعد انقطاعها الطويل عنها، وعن أسرتها، وأهل قريتها وسعي شكيل الجاد للم شمل سهيلة بأهلها..
كان لوقت الفراغ لدى سهيلة دور في تفتيت كبريائها وتلاشيه وسعيها نحو طلب رضا زوجها عليها، فبعد أن ألغت أعمال مؤسستها وقللت بعد عملها الحكومي الخروج من البيت لقضاء أوقات الفراغ برفقة صديقاتها وزميلاتها ووجدت نفسها وحيدة البيت، أخذت تقضي بضع ساعات يومياً بين جنبات الهدى (القرآن الكريم) مع أدائها بعض العبادات والنوافل من الصلوات من غير الفرائض والأدعية، واهتدت سهيلة ولله الحمد ولان قلبها ورق، وعرفت للتو قيمة شكيل ومكانته لديها وفي قلبها، كما لم تنسَ أنها مدينة له بمبلغ مالي قد لا يكون بمقدورها إعادته إليه.
إذاً، هكذا كان توددها له وموافقتها على شروطه لها ولو بعد عسر فما أجمله من تصالح! وسنحت الفرصة للزوجين بزيارة القرية ولو على مضض من قبل سهيلة للحرج الذي يكتنفها، ولكنها رافقت زوجها الذي كان رجلاً شهماً معها قَـلّما أن تجد مثله، صابراً لطيشها ودوداً كريماً معها، وهي تتذكر الليلة التي وقع حادث السير الأليم عليها وقضى بسببه على أفراد أسرتها، وما تبع ذلك من أحداث قام بها شكيل لأجلها، فها هي تدرك أخيراً أهمية الاحتفاظ بمثل هذا الرجل وقيمته.
وصلا القرية ليلاً؛ حيث البيت الذي أنشأه شكيل، والذي تقيم فيه والدته بسنين عمرها التي مضت بها وحيدة إلا ما ندر عند زيارة شكيل لها، التي تنتظر عودته إليها سالماً تحفه عناية الرحمن، وتلكم العاملة الوافدة التي لاءمها العيش كثيراً في خدمة هذه الأم الطيبة، وهو يتشوّق -لا شك- إلى نبع حنانها ومطبخها؛ حيث يتلذذ برفقتها بتناول ما تطهيه له من طعام، وما أن عرفت أنه وصل إلا وخرجت لاستقباله والسلام عليه كما هو يريد لقاءها، ويتشوّق لرؤيتها للاطمئنان عليها وعلى صحتها وحالها قبل أن يأوي إلى فراشه، فالتقيا في صالة الجلوس، ولكن هذه المرة ليس كسابقاتها من المرات فهو برفقة سهيلة التي ما تزال في الخارج تلملم أشياءها من السيارة بمساعدة عاملة بيتها، وحتى اللحظة يجهل شكيل مدى قبول سهيلة من قبل والديها وباقي أفراد أسرتها بينهم نتيجة الجرح الأليم الذي تسببت به لهم، ويأبى أن يندمل كما اندملت جروح من قبله ومن بعده إلا هو ما يزال مفتوحاً يقاسي ألم السنين بماضيه وحاضره وربما مستقبله، لطالما الكل حيٌّ يرزق، والكل يذكر مآسي ذلكم الأسى الذي كانت سهيلة سببه؛ فهل سيتقبل أهلها وجودها بينهم في القرية؟
أخبر شكيل والدته بوجود سهيلة برفقته، وأنه سيحثها بالدخول والتي بدورها لم تعارض وجودها طالما هي زوجاً لابنها، بل رحبت بذلك، ولكنها سألته عن كيفية موافقتها بالمجيء للقرية بعد انقطاعها عنها كل السنين التي مضت؟ فرد عليها بأنه أحضرها وفق شروط اشترطها عليها ومؤكداً للأم بأنه سيقص عليها القصص لاحقاً، فخرج إليها يستحثها بالدخول والسلام على والدته، والتقت سهيلة بعمتها والدة شكيل، وسلمت عليها؛ حيث استقبلتها الأم استقبالاً حسناً متمنية لهما معاً قضاء أيام موفقة ومباركة في القرية وداعية لهما بالخير والتوفيق، ورغم أن حسن الاستقبال والتعامل الذي لاقته من عمتها أخجل سهيلة، لكنها في الوقت ذاته لم تقابل هي ذلك بالمثل ربما استحياءً من الأم لطول الفراق بينهما، فلم تكن كالراحلة جهينة حين التقت عمتها منذ المرة الأولى، وهي القادمة من العاصمة ومن سكانها، وعلى النقيض من سهيلة التي هي ابنة القرية وعلى معرفة تامة بأم زوجها من السابق، ولكنها هي طبيعة التباين في البشر، ورغم ذلك فإن هذه الأم الرؤوم التي تدعو للجميع بالخير دائماً لن يَبدر منها إلا كما عُهِد فيها وعُرِف عنها، وما أن استقر الزوجان وعاملة بيتهما بحاجياتهم وعرفتا كل من سهيلة والعاملة غرفة نوم كل منهما وحيث اعتذروا عن تناول أية طعام حتى الصباح؛ استأذنت سهيلة لتلج غرفة نومها، وانتهز شكيل فرصة اختلائه بوالدته وجلوسه معها، والتي يتوق إلى حبها وحنانها اللذين ما فتئت تغدقهما عليه عن طيب خاطر وسعة بال منذ أن ولدته، وليُسرّها في الوقت ذاته بحكايته مع سهيلة بعد زواجه بها، والتي أخفاها عنها طوال الفترة الماضية، لعدم رغبته في تعكير صفو حياتها؛ كي تقر عينها ولا تحزن على معاناة الشقاء الأسري الذي هو عليه مع سهيلة فيما مضى، فهو يعرف حال والدته إذا ما عرفت أن ابنها غير سعيد ولو كان ذلك بأقل المنغصات، وبذلك آثر شكيل إخفاء عنها ما كان عليه من عدم الاستقرار في حياته الزوجية؛ حتى يجد مخرجاً للمأزق الذي وضع نفسه فيه نتيجة زواجه من سهيلة، وها هو يخبرها الآن بتفاصيل كل ذلك كونها الأقرب إليه والأكثر تفهماً لمشاكله وصندوقاً أميناً لحفظ أسرار حياته، مذكراً إياها أنه حين سألها المشورة ذات مرة عن حال صديق عزيز عليه وتعاسته مع أسرته، إنما كان يعني من ذلك نفسه لتذكره هي معاتبة له بأنها ظنت ذلك، وسمعت الأم من ابنها كل ما قاله، وما حدث له، وما فعله، وما اتخذه من رأي، وأخيراً ما اتفق عليه مع سهيلة، وقد عاتبته عتب حب أم لابنها على عدم إشراكه لها في ضرائه قبل سرائه، والذي بدوره أكد لها أن حبه لها هو سبب إخفاء متاعبه عنها؛ حتى يجنبها همومه ومشاكله وقد صار رجلاً باستطاعته التغلب على ما يعترضه من متاعب ليجنبها كُرَب معاناته وهمومها، ورغم ارتياح الأم بتمسك ابنها بالمبادئ التي جعلته لا يقبل أن يكون أسيراً لامرأته ووقوفه إلى جانب الحق ومساعدة الآخرين كما حدث منه مع سهيلة وزهوها به كونه تمكن بحكمته وصبره وسعة باله أن يكبح جماح هذه المرأة المتعالية، والتي قطعت تواصلها بالقرية وأهلها نتيجة كبريائها وغرورها، ورغم أنها رضخت لرغبة ابنها بالزواج من سهيلة، لكنها كاشفته بتوجسها فيما مضى من أن الحاضرة سهيلة لن تكون كالراحلة جهينة بطيب معشرها ودماثة خلقها، ولكن أمام ذلك وقد تمكن من ترويضها لصالحه تجد الأم أن الأمور تساعد على العودة لمسارها الصحيح، وقد دعت لسهيلة بالخير والتوفيق والرضا والقبول الحسن بين أهلها وأقاربها، كما وبعد عتب الدلال الذي أبداه شكيل لوالدته من عدم دعائها له تبسمت في وجهه وهي تمسح بيدها على رأسه، وقد دعت له هو الآخر خير الدعاء، دعاء رضا وحب من أم لابنها البار، فقبّل رأسها ويدها داعياً لها بالصحة والسعادة وأن يمد الله في عمرها أعواماً عديدة، فما ألطف هذه اللحظات الهانئة والسعادة الدائمة وأجملها بين الأم وابنها- إنها بركة وجود الوالدين أحدهما أو كليهما – وقد أنهيا عند ذلك جلستهما ليأوي كل منهما لمضجعه، ولكن هل لشكيل أن يحقق شيئاً مما سيسعى إليه مع والد زوجه؟ لا سيما وأنه الرجل الوفي لقريته وأهلها الذين يكنون له كل احترام وتقدير ووالد سهيلة في مقدمتهم.
وفي الصباح أدى شكيل صلاة الفجر جماعة في مسجد القرية، تلا ذلك سلامه على الموجودين الذين أخذ يصافحهم واحداً تلو الآخر شيباً وشباناً، موقراً الكبير ومحترماً الصغير بتواضع وتقدير، وكما هو معلوم بأن الحركة تدب في القرية مباشرةً بعد الصلاة فقد رافق شكيل عمه والد سهيلة إلى منزله، فجلسا مقابل الموقد؛ حيث حسيس النار فيه مستمدة وهجها الخافت من جذوات ما تزال ملتهبة تقاوم البقاء بعد أن أتت النار عليها في غياب العم عن الموقد ليعيد الحياة إليها للتو بالتقليب والنفخ وتزويدها ببضع حطبات من الجوار، وفي ذات الوقت بدأ عم شكيل بتحضير (معاميله) فغرف بيده من كيس قماشي صغير كمية مناسبة من حبيبات البن ووضعها في المقلاة السوداء محدودة السعة ضيقة الحوض طويلة المقبض، وأخذ يقلبها على النار بمحماس نحيف معادلاً للمقلاة في الطول منتهٍ بقرص يساعد على تقليب كمية حبات القهوة، وحين استوت أفرغها في هاون الحديد الصلب، وأقدم على دقها بمدق الفولاذ اللولبي الخاص بها، وهما يتبادلان أطرافا شتى من الأحاديث الشيقة بينهما، فأعد العم القهوة وجاءت أم سهيلة بإناء مملوء بحليب الماعز المحلي الطازج؛ حيث سكبه زوجها في الإبريق الخاص بإعداد الشاي بعد أن تبادلت السلام مع شكيل، وصار مشروب الضيافة جاهزاً، فاحتسى شكيل وعمه ما صنعاه على تلكم الجذوات شديدة الحمرة من حطب أشجار السمر التي يجاهدا معاً لتظل على التهابها ليستدفئا بها من برودة الشتاء الديسمبري، لا سيما شتاء القرى الجبلية القارس والجاف؛ حيث تصل درجة الحرارة لأدنى مستوياتها في فصل الشتاء إن لم تصل لتحت الرقم صفر، ثم بادر شكيل بمفاتحة والد سهيلة برغبته في لم شمله وأسرته مع سهيلة، وأنه آن الأوان لإعادة الحياة بينهم إلى سابق عهدها، لكن الأب المتحسر على أفعال ابنته لا يقبل أن يراها طوال ما بقي له من عمر نتيجة انقطاعها عنهم دون سبب يذكر، ولو كونها زوجاً لمن يقدّره ويحترمه ويعده بمثابة ابناً له أي- شكيل- هكذا تلقى شكيل الرد، لكن شكيل رجاه أن يعفو ويصفح عنها وعن زلاتها اللا مسؤولة وقبول اعتذارها منهم، فحاول معه لبعض الوقت بلطف القول ولينه لعله ينسى ويصفح ويرق قلبه تجاه ابنته، ولكن كل ذلك وحتى تقديره لشكيل لم يجد طريقاً بالتجاوب والقبول لدى الأب ليؤكد له شكيل بعد ذلك أنه سيعود إليه لسماع رأيه في وقت آخر، فودعه على أمل لقاء جديد بينهما، وعاد شكيل للبيت، فوجد ما كان يرجو ويتمنى حدوثه ،،إنها سهيلة،، وجدها في المطبخ تعد وجبة الإفطار جنباً إلى جنب مع عاملتي البيت، والأم تجلس إلى جانبها في هدوء وسكينة بعد أن طلبت إليها سهيلة عدم إجهاد نفسها وأنها هي من ستتولى إعداد الطعام والإشراف عليه.
إذاً، هناك تقارب وتحسن في العلاقة وبدء في الانسجام بين سهيلة والأم، بينما الأخيرة تسدي إليها النصيحة بضرورة مصالحة أهلها إرضاءً لله سبحانه وتعالى، وبدا أن سهيلة قد تقبلت النصيحة مؤكدة للأم أنها تركت الأمر بتصرف شكيل، والذي بدوره وهو قادم إليهما أكد لهما سعيه في ذلك رغم أن الأمر يمر بمخاضٍ عسير وقد يستغرق بعض الوقت…
للأحداث بقية سنتعرف عليها بإذن الله تعالى من خلال الجزء الأخير.