لعلها خيرة
أحمد بن سليم الحراصي
كلمتان فقط، تشرح لنا الكثير مما لا نفهمه في البداية ، وعندما تسري الأيام وتظهر نتيجتها وجوهرها ، تعرف حينها أنها عبارة عميقة رغم قصرها قد سمعتها من أحدهم وأنت في أشد لحظات الألم والضيق وتغضب لأنه ربت على كتفك بكلمتين لم تكن بحاجة إلى سماعهن وأنت تدمي من الداخل ، بل كنت تتمنى أن تسمع شيئا آخر ينقذك من هذه الحمم التي تثور بداخلك.
أكاد أضحك على نفسي وأنا أكتب هذه السطور ، وأنا من ظننت وأيما ظن بأن اللحظات التي كنت فيها حزينا قد شارفت إلى النهاية ، ولكن كانت العبارة نفسها التي تلاحقني (لعلها خيرة) صامدة وكأنها تقول: إن الخير قادم لا محالة ، فلعلها خيرة في الفراق، في الخسارة ، في الوجع، في الخيبة، في العثرة وفي الانفصال ، كلها ستكون خيرة لك من الله؛ لأنه يُحبك فأراد لك الأفضل لكي تعيش مطمئنًا ،فأنت من دعوت ربك بأن يكتب لك الخير كله عاجله وآجله وأن يُجنبك الشر عاجله وآجله ، وأنت من دعوت أيضا بأن يتولاك ربك في كل أمورك، وأنت من دعوته بأن يرزقك الزوجة الصالحة، وأنت أيضًا من قلت بعد كل صلاة بأن من أراد بك سوءًا فليرد الله كيده في نحره وأن يجعل تدبيره تدميرا له ، وأنت من دعوت في ظلمة الليل الحالكة بأن يتوفاك ربك إن كان يعلم أن الممات خيرٌ لك وأن تعيش إن كان يعلم بأن الحياة خيرٌ لك، فبعد كل هذه الأدعية التي دعوتها ، ألم تسل نفسك بأن الله قد استجاب دعواتك هذه؟ ألم تظن بالله خيرًا ؟ فهل توقعت أن يتركك تضيع وتلقي بنفسك إلى التهلكة؟ لقد سألته خيرًا وصلاحًا فكان لك ما أردت ، أُستجيبت دعواتك فتألمت وهذا هو ثمن الاستجابة، وهو تطهيرك من الذنوب والآثام كي تستقيم، فلماذا يئست إذًا بعد ما حدث لك؟ فلعلها خيرة إذًا يا صديقي.
ربما نسيت في لحظة كل هذا بعد الذي حصل؛ لأنني كنت أتوقع شيئا بسيطًا وليست صدمة قوية، لقد علمت حينها أن الله أراد أن يوقظني من الوهم الذي كنت أعيشه يوما ؛فالصدمة إما أن تدمرك أو أن تصنع منك رجلًا فاختر طريقك بنفسك، فعلى العكس تماما عندما تطمئن نفسك بنفسك وتقول: لا بأس فأنا أعرف أن الذي حدث لي هو خير لي ، فالخيرة فيما اختارها الله لي، أَوَليْسَ أنت من كنت تقرأ سورة الطلاق كثيرًا وقد قرأت الجزء الأخير من الآية الأولى التي يقول فيها عز من قائل (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا)، وأنت نفسه الشخص الذي تأمل سورة الانشراح فقرأت الآية الخامسة التي يقول فيها سبحانه وتعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، فهل لا تزال تساؤلات كثيرة تراودك كأن تقول لِمَ أنا يا الله؟ لأنه باختصار يُحبك ويُريد لك الأفضل، فهل لا تزال غير مقتنع؟
سأقول لك شيئًا يا عزيزي ، أن كل إجاباتك ستجدها في القرآن الكريم ، فالرزق سيأتيك حتما والبركة سترافقك دومًا وقلبك سيرتاح وستسعد روحك؛ لأن السعادة والشقاء أمران يحكمهما شيء واحد وهو عدم القنوط من رحمة الله ، إن كنت شقيًا وتغاضيت عن رحمة الله لك ولم تقترب لأجل أن يسعدك فستظل شقيًا ، فإن حزنت وجزعت فتذكر قوله سبحانه وتعالى على لسان رسوله الكريم (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة 40)، أليس من قال (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (الكهف 82) والذي قال أيضًا (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف 79)، هو نفسه الذي قال (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف 81)، وصدق من قائل، كلها كانت باطنها شرٌ لكن ظاهرها خيرٌ، فموسى النبي عليه السلام الذي صاحب الخضر لم يكن يعرف أن وراء أفعال الخضر هذه خيرة لأولئك المساكين الذين أنقذهم من الوقوع في الهلاك وبراثن الضياع، فكان منقذهم الخضر وبأمر من الله سبحانه تعالى؛ لأنه كان يُحب هؤلاء الناس واستجاب لدعواتهم فكانت الخيرة لهم من ربهم فأصبح ذلك الشر الذي رآه موسى نجاتهم الوحيدة.
أخيرا (فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء 19)، الخير كله يكمن في الشر، ما ظننته شرًا كان خيرا لأن الله اختاره لك، احسن الظن بالله دائمًا ، تأكد أن دعاءك قد استجيب ولكن الاستجابة قد تعني أحيانًا الخسارة ، قد تعني الفراق والانفصال والرحيل ، قد تعني كل شيء تكرهه لكن تذكر دائما لو كان خيرا لبقى، وأن الله يراك من حيث لا تراه، ويُدبر لك الأمر ، فلعلها خيرة لأجلك ، ها أنا اليوم أرى نفسي أصبحت مطمئنا بعدما كنت أظن كما ظننت أنت أن كل الشر والمأساة قد كتبت في قدري وأن القدر يلاحقني بشره أينما ذهبت ولكن عندما رأيت الطمأنينة ووصلت لأقصى درجات الراحة والرضى ، أعترف بعد كل الذي حصل والذي سيحصل بأنه سيكون خيرًا وأن الله معي حينما ينقلب العالم كله ضدي.
بقيَ أن تعرف -أيها العزيز- أنني وأنت لسنا سوى بشر نتعثر ثم ننهض ، الحياة كلها امتحان، تأخذ منك ابنك، زوجتك، والدك، حتى أصدقاءك، تفتنك في المال ثم تنزعه عنك ، تفتنك بالأولاد ثم تتركك وحيدًا ، تكون صحيحًا فتصبح سقيمًا ، عليك فقط أن ترضى بالقدر وأن تتأكد بأن أدعيتك قد استجيبت إن كنت صافي القلب والنية ومحسن الظن برب البرية.