القروي والعاصمة.. (9-15)
خميس بن محسن البادي
كنا قد توقفنا في الجزء السابق مع وجود شكيل في القرية وأخذ رأي والدته حول إبلاغ أهل سهيلة بما تعرضت له لوقوفه هو على الموضوع وعلمه به ولاحتمالية عدم معرفتهم هم بذلك…
حثته أمه على إبلاغ والد سهيلة بذلك خاصة وأنه على علم واطلاع بما حدث لها وهم ربما لا علم لهم بذلك مؤكدة أنهم لو كانوا على بينة بما تعرضت له ابنتهم لكانت سمعت ذلك منهم وأن الواجب إخبارهم بالأمر، فتوجه شكيل إلى والد سهيلة الذي استقبله كما يستقبل عزيزاً عليه، نعم فالجميع هنا يكنون الاحترام والتقدير لشكيل لتواضعه وحسن أخلاقه والسؤال عنهم وتعاونه معهم، وبعد السلام وتبادل العرف المجتمعي(أخذ العلوم) سأل شكيل والد سهيلة عما إذا كان على بيّنة بما وقع لسهيلة فأجابه بالنفي دون أن يبدي اهتماماً لما سمعه فأوضح له ما حدث لها ولكن وبعدم اهتمام أيضاً رد عليه وباختصار جم (الله يشفيها) وعاد يسأله عن حياته هو وعمله وصحة والدته وكأن أمر سهيلة ابنته لا يهمه ولا يعنيه بل بدا وكأنه لا يعرفها مطلقاً، وهنا عرف شكيل أن الخطب لا بد وأنه كبير وربما يكون تعدى درجة الخطر، لكنه لم يشأ أن ينغص على والد سهيلة بطرح مزيد من الأسئلة والمناقشات معه بل آثر المغادرة مودعاً هذا الرجل المسن الذي عرفه خلوقاً طيباً كريماً لكنه في المقابل ورغم ذلك هو حازم وبشدة في كل ما يخالف الدين والحق والتحلي بالأخلاق الفاضلة والعرف المجتمعي، وغادر شكيل القرية إلى العاصمة حيث بدأت سهيلة هناك تتعافى من إصاباتها وقد غادرت المستشفى قبل أيام بعد أن استعادت بفضل الله الكثير من عافيتها، وها هي تطلب من شكيل الوقوف معها ومساعدتها حتى تتمكن من تسيير أمور حياتها الجديدة وتتأقلم مع وضعها المؤلم الذي قدّره الله تعالى لها، لاسيما وأنها ستقضي عدتها الشرعية على وفاة زوجها وهي حبيسة بيتها فوعدها بذلك سائلاً إياها عن سبب جفائها بأقاربها فأخبرته باقتضاب أن ثمة خلافات وتباين في وجهات النظر بينها وبين أهل زوجها الراحل آثرت على إثرها إبعاد نفسها عنهم وانقطعت عن التواصل معهم، بينما بقي زوجها والطفلين على تواصلهم معهم من وقت لآخر حتى وافاهم الأجل المحتوم دون إتيانها على ذكر خلافها مع أهلها في القرية، وأكدت له بأنها ليست بحاجة ملحّة إلى ميراث زوجها الراحل مبينةً له أنها تمتلك مشروع تجاري خاص بها والذي يدر عليها ربحاً يكفيها لتعيش من إيراده حياة كريمة وإضافة إلى ذلك فهي تمتلك منزلاً باسمها في العاصمة وسيارة خاصة بها، كما أوضحت له أنها حاصلة على مؤهل تعليمي متقدم وهو ما لم تحصل عليه من هن في مستواها الاجتماعي كونها كانت متزوجة وأماً لطفلين، وأن مؤهلها الدراسي الذي حصلت عليه يساعدها ويؤهلها لتولي وظيفة مرموقة في أي قطاع من القطاعات العامة أو الخاصة، ومن ثَم فهي في غنى عن نصيبها من ميراث زوجها المتوفى مضيفة بأنها تفضل أن تحفظ كرامتها دون أن تسمح لنفسها بالمطالبة بذلك الإرث الزهيد كما قالت، هذا ما أعلمت به شكيل واكتشفه شكيل أنه واقعاً في حياتها وليس كما كان يظن من أنها ستكون معدمة بوفاة زوجها وهي التي لم تتعدَّ مرحلة التعليم المتوفر في القرية، وقد استقرت سهيلة في بيتها تقضي عدتها الشرعية ولتتعافى من إصاباتها شيئاً فشيئاً بينما كان شكيل يعودها من وقت لآخر للوقوف على متطلباتها هي والمساعدة بمنزلها، وفي المقابل كان أهل زوج سهيلة الراحل قد سعوا نحو إبراء ذمتهم من حقها كأحد ورثة ابنهم المتوفى، حيث وهي في عدتها حضر إليها أحد موظفي المحكمة لسماع ما لديها عن حقها الشرعي من ميراث زوجها والذي عاد للقاضي يبلغه أنها ترغب في نقل خدمات عاملة المنزل لتكون باسمها وأن باقي نصيبها من التركة لا يعنيها، فتم لها ما طلبت فيما يخص العاملة كما خصص لها القاضي مبلغاً من المال برضا وموافقة أهل الزوج المتوفى وبعد انقضاء عدة سهيلة الشرعية تم استدعائها للمحكمة لتسليمها نصيبها من الميراث، وتمر الأيام فما هو قادمها في حياة كل من شكيل وسهيلة؟.
شكيل أيم، وسهيلة أرملة، وكلاهما شاء الله أن يقضي أجل أفراد أسرة كل منهما، هو زوجه بجنينها قبل ولادته وهو ما عرفته هي منه أيضاً ، وهي زوجها وطفليها وهو هنا على بيّنة تامة بكيفية وفاة أفراد أسرتها وكيف لا وهو من وجدهم جرحى في ذلك الحادث المؤلم الذي أودى بحياتهم؟، وفي هذه الظروف استمرت لقاءاتهما وانبهر شكيل بشخصية سهيلة بحديثها الراقي وثقافتها وجرأتها في التعاطي مع أمور الحياة من حولها وهي تلكم الفتاة الريفية التي عاشت بعيداً عن التطور والمدنية لبرهة من الزمن، ما جعله يعجب بها أكثر بل واتفق معها على إقامة شراكة تجارية بينهما ما زاد من جرعة اللقاءات المستمرة بينهما وثمة إعجاب عاطفي قديم انتهى بعجز شكيل عن ديمومة استمراره في ذلك الوقت من الزمن وعدم تتويج ذلكم الإعجاب بالزواج، فغيّب الدهر المنقضي تلكم المعرفة الغرامية عبر طي من السنين مضت عليها وقد تلاشت آثارها وبقاياها من قلبيهما، لكنها في المقابل هي جذوة الحب والغرام التي يندر انطفائها إذا ما سرى في وصالها بصيص من بارقة أمل ولو بلقاء عابر لتصطلي بها القلوب والمشاعر من جديد، إذاً كيف ذلك والحال أضحى أقوى من مجرد كونه لقاء خاطف؟، نعم فلقد بدأت تلك الجذوة في استعادة عافيتها بعد سنين انكمشت وتقوقعت على ذاتها بل انعدمت إن لم تكن أُعدمت وصارت من الماضي المنسي لتعود اليوم من جديد وهي في أوج تمكنها واستقلالها ليبدأ دفء المودة في سريان مفعوله وتدفقه في القلبين اللذيْن حرمتهما ظروف الحياة فيما مضى من بعض، لكن ماذا عن سهيلة وأهلها؟ وما هو سبب انقطاعها عنهم وهي لم تبح له بشيء عن ذلك رغم سؤاله لها لأكثر من مرة عن سبب الجفوة العميقة مع أهلها؟ وهل باستطاعة شكيل وهو الرجل العصامي الذي عُرف بدماثة الخلق وطيب المعشر أن يتزوّج من سهيلة دون الرجوع لأهل قريته الذين يعتبرهم بمثابة أهل لهما معاً خاصة أهلها ووالدته؟.
فهو متفق معها على الزواج وفي ذات الوقت مختلف معها عليه دون أن يتم إبلاغ أهلهما، فقبلت أن يقوم هو بإبلاغ والدته دون أهلها لكنه عارض ذلك بشدة، مؤكداً لها بأن إذن وموافقة أهلها أهم من موافقة والدته هو كونه رجل واتخاذ قراراته يتخذها بنفسه مؤكداً لها أن والدته هي من توصيه بالزواج فلم تعقب على رده، لكنها همست لنفسها ببضع كلمات بأنها ستتفق معه يوماً على اتخاذ قرار معين متفق عليه من كليهما فهل هو التحدي الذي ستقوم به سهيلة؟، وفي القرية حيث كان شكيل هناك أخبر والدته عن نيته الزواج من سهيلة واندهاشه من رفضها إبلاغ أهلها لأخذ موافقتهم ومباركتهم لها لذلك مضيفاً بأنه لا يمكن أن يقدم على هذا الأمر دون أخذ موافقتهم أو علمهم بالموضوع كأقل تقدير، لكن والدته وهي التي لم تغادر القرية وعلى تواصل بأهل سهيلة فهي أخبر من شكيل ابنها بهذه المرأة التي تعالت على أهلها وتنكرت لهم وتعالت عليهم من منطلق أنها خبرت الحياة وعاشت في غير قريتها وزارت العديد من الدول ونالت شهادة متقدمة من التعليم وأنها سبب إبعاد زوجها المتوفى عن أهله، وعدم ارتياحها لهم بسبب رغبتها المطلقة في تسيير شؤون حياة زواجها إلا أن والدة شكيل لم تشأ أن تخوض في هذه التفاصيل مع ابنها واكتفت بإسداء نصيحتها له من أنه يجب أن يبحث له عن زوج غيرها دون أن تخبره عما تعلمه، فأنـّى لشكيل أن يستقي مبتغاه من المعلومات عن سهيلة قبل إقدامه على الزواج منها أو أنه سيعمل بنصيحة والدته وينسحب من حياتها ؟، النصيحة المقتضبة من والدته التي لم يجدها سبباً كافياً ومقنعاً لامتناعه عن زواجه من سهيلة وبذلك آثر استيضاح أمر انقطاعها عن أهلها من والدها ولطلبها للزواج في الوقت عينه، فلم يفوّت الفرصة سيما وأنه ما يزال في القرية فتوجه إلى منزل أهل سهيلة وقابل والدها وبعد التحية والسلام والتضييف وتبادل أخذ ما يُعرف بــ( العلوم)، أطلع شكيل والد سهيلة بنيته الزواج بها وأنه جاء يطلب موافقته فرد الأب بأنه يعتبره بمثابة ابناً له وبذلك نصحه بأن لا يورّط نفسه بالزواج من هذه المرأة،، هكذا نعتها،،بالمرأة،، لكن هل لـ(شكيل) أن يقتنع بهذه النصائح المختصرة دون الولوج في إيضاحات أشمل تجعله يقرر ما هو مقدم عليه من توجه، فهو بحاجة إلى ما يقنعه فعلاً بالأسباب التي تحول دون أهلية سهيلة له كزوج وفي قريته لم يجد عدا التحفظ على الأسباب المانعة لقيام هذا الزواج الذي يسعى إليه، فلم يجد إلا أن يتخذ بنفسه القرار في شأن زواجه من سهيلة وبذلك قرر أن يُفهم سهيلة أكثر ويتأنى في زواجه منها حتى تتبين له أسباب عدم مباركة والدته ووالدها هذا الزواج، ولكن وبمضي الأيام لم تتكشف له من سهيلة إلا دماثة الخلق وطيب المعشر واحترام وتقدير الآخر فهل هي مقدمات لإنجاح مشروع الزواج أم أن سهيلة فعلاً لديها توجهاتها في الحياة الزوجية التي قد يرفضها شريكها وأقاربهما؟، ورغم ذلك لم يجد شكيل تفسيراً للممانعة من زواجه بها ولم يكن أمامه عدا أن يقترن بها، فما كان منه إلا أن توجه إلى القاضي وقص عليه نيته الزواج من سهيلة والخلاف القائم بينها وأهلها وعدم رغبة والدها بزواجه منها لأسباب لم يبينها له عدا قوله له بعدم رغبته في أن يورط نفسه بالزواج منها، فأمره القاضي بالتوجه مجدداً إلى والد سهيلة لطلب موافقته وتأكيد ذلك أمام قاضي الولاية للتيسير عليه عوضاً عن الحضور إلى العاصمة، فتولى شكيل الأمر وأقنع الأب برغبته الزواج من سهيلة وأخذه لقاضي الولاية فتم تثبيت عدم ممانعته من الزواج خطياً بصفة رسمية، وفي طريق عودتهما للقرية أخذ الأب يمتدح شكيل ويؤكد له بأنه عزيز عليهم في القرية ولا يريد له إلا الخير وطلب إليه بأن لا يأتيه بسهيلة حين يزور القرية، وإذا ما أراد هو زيارته فله أن يأتي متى شاء دونها معرّجاً في سياق حديثه عن نساء اليوم وضرورة التعامل معهن بحذر فلعله أراد من ذلك توجيه نصيحة غير مباشرة لشكيل بعد زواجه من سهيلة ليأخذ حذره منها، فشكره شكيل على هذه المشاعر الطيبة التي يكنها له ووعده بأنه لن يكون إلا كما عهدوه في القرية، وعاد شكيل للعاصمة يحمل معه موافقة والد سهيلة بزواجها من شكيل والموثقة من قبل قاضي ولايتهما، عاد وفي ذهنه سهيلة ووالدها وثالثهما الجفوة التي بينهما والتي ورغم سعيه لكشف حقيقتها إلا أنه أخفق في ذلك ولم يتوصل عما بحث عنه طويلاً، فتم الزواج بمعرفة القاضي في العاصمة طبقاً للأسس المتبعة وبذلك أصبح كل من شكيل وسهيلة زوجين وفق شرع الله وسنة رسوله وبعقد زواج موثّق ولهما أن يمارسا حياتهما في مسكن واحد مثلهما مثل أي زوجين، ولكن كيف ستسير سفينة الحياة بالزوجين؟،،، ولنا لقاء مقبل بإذن الله تعالى في الجزء التالي.