2024
Adsense
مقالات صحفية

أبواق حزن في ليلة سمراء

سميحة الحوسنية

هو الفراق الموجع الذي يعزف على أوتار الحزن بأنامل الفقد.. تتوسد أيامنا الوجع وأطياف مكلومة تهرول وتبكي من شدة الحنين.. ورائحة الذكريات في كل شبر وزاوية بالمنزل.. نشمُّ عطرها.. ونسمع صدى صوتها في أروقة المكان.

هي نبضات القلب التي تسبق الخطوات حين نصل على أعتاب البيوت، وأول سؤال نسأله:(أين أمي؟).
مازالت (نعمة) تتذكر تلك اللحظات الموجوعة لذاك الحادث الأليم الذي التهم ببراثنه أسرتها.. أمها وأخوها وعائلته .. في تلك الليلة المعتمة التي لم يطل فيها القمر كعادته؛ فكان الوداع الأخير .. حين ذهبت عائلتها إلى ( أحد الأماكن السياحية) لقضاء اوقات ممتعة في أحضان الطبيعة وللاستمتاع بالمناظر الخلابة، وما كتب في تلك الرحلة من سيناريو قاسٍ غيّر مجرى الكثير من الأحداث ليكتب قصة جديدة تعيشها (نعمة) بكل مضض ووجع حين تهيج أشواقها لعائلتها ودفء مشاعرهم ولمتهم.

هناك في ذاك الشارع الملطخ بدمائهم التي نزفت كأنهار متدفقة احتضنها التراب، وأشياءهم المبعثرة على قارعة الطريق، ونبض بدأ في التشهد، وصرخات موجعة كأبواق تعلن الوداع وأشلاء (جمل تائهة أضل الطريق فكان يتخبط في خطواته .. ليضع بصماته على حكاية الرحيل).

كانت الساعة الثالثة صباحًا عندما رنّ جرس المنزل، تصاحبه بعض اللطمات المتسارعة على وجهه الباب، والتي أدخلت الرعب والخوف في داخلي لتخرج جدتي تتكئ على عصاها التي تسند شيخوختها، وتسأل من عند الباب؟ وما هي إلا لحظات وتتعالى أصوات الصراخ والأحاديث خارج منزلنا ويجتمع الجيران، فكان ضجيج الموت الذي يحمل الجنائز ويخضب الوقت بالسواد.

لم تتحمل جدتي (كذية) ذاك الخبر الذي وقع عليها كالصاعقة فسقطت شيخوختها الصفراء على الأرض، فبدأت بالصراخ والنحيب وهرعت خارج المنزل، وبدأت أحضان جاراتي كأجنحة تضم جسدي المرتجف تحتضن غصتي وتصبرني على فاجعتي.. كنت أشعر بزلزال تحت قدماي.. لم أستطع قيادة السيارة حتى بادر العم خلفان ليقلني في سيارته عندما وصلت إلى هناك.. كانت السماء تمطر جمرًا.. ولسعات الموت ورائحته في كل مكان، فلا نبض للأرواح يحيي الأمل.. كم تمنيت أن يكون حلمًا أصحو منه ويفيقني صوت أمي وهي تقول لي:(بسك نوم قومي نفطر مع بعض) أو صوت أخي الذي يدللني ويغدق عليّ دلالا.. وزوجته الصديقة والحبيبة وأطفاله الذين يملأون البيت حياة وسعادة ويعطرون الأجواء برائحة الطفولة ومرحها ذبلت زهور عمرهم لتحتضنها المدافن، ولتغطيهم الأكفان فتحملهم الآهات إلى مثواهم قبل الأخير.. أي حزن وأي وجع سيتحمله قلبي الذي ارتدى سواد الحزن والحداد؟
لم تعد أمي إلى بيتها ليعبق حنانها ويدفئني وجودها.. لم تعد إلى غرفتها التي تعبق برائحة اللبان والصمغ، وملابسها البسيطة، وعطورها، وصوتها في تجمعات جاراتها عند تناول القهوة.. لم يعد أخي وعائلته لتدب الحياة في المنزل، ولأعتني بأطفاله وأتوسد حضن زوجته عندما تعصرني ظروف الحياة.. بدأت ملامح الفرح تختفي في بيتنا وبدأ الصقيع يكتسي الجدارن.. لم يعد هناك شيء إلا بكاء جدتي على سجادتها في كل الأوقات.. وعيناها اللتان لاتجفان أبدًا.. خيّم الحزن على حياتنا كسحابة قاتمة تمطر حزنًا وشوقًا وحنينًا لأجمل الأيام.

بدأت صحة جدتي (كذية) تنهار يومًا بعد يوم.. فقدماها النحيلتان وجسدها الذي ينهش فيه مرض السكر حتى لم تعد عصاة (العتم) تقوى على حمل جسدها المثقل بالهموم، وكثير ما كانت تسقط من يداها لتعانق كفوفها الجدران تلتمس ملامحها، وقد ابيضت عيناها من الحزن والبكاء؛ فجدتي فقدت أبناءها الثلاثة في ذلك المحمل الذي لم يعد من الغربة في سنة (الطبعة)، فكانت والدتي بالنسبة إليها نور الحياة وسعادتها.. كم كنت أراقبها وهي تجلس على حافة الفلج ترافقها دموعها وقصائد الرثاء التي تحفظها وتضرب بيديها على رأسها من أوجاع الدهر وصروفه، وتكفكف الدمع بأناملها التي ذابت كالشموع من وهج الكلم.. لم أشعر بطعم الحياة بعد تلك الأحداث المؤلمة بعد سنوات.. توفت جدتي التي لم تتحمل لوعة الفراق و..

تقدم لخطبتي أحد أبناء حارتي إبن المعلمة زيانة (سيف) الذي كان حافظًا للقرآن.. شابًّا وسيمًا.. ورزقني الله منه طفلة جميلة.. قررنا العيش خارج القرية، فكل ما فيها يذكرني بتلك الليلة المؤلمة والأيام الحزينة التي عشتها في تلك السنوات… أغلقت منزل أمي أنثر الورد والياسمين في صفحات الذاكرة.. فكم كنت أتمنى أن تشهد أمي ولادتي وتحمل طفلتي في أحضانها، ويأذن في أذنيها أخي ويقبلها صغاره، وتغني لها جدتي وتشاركني في طقوس الفرح زوجة أخي.. ودعت المكان ودموعي تحرق خداي ولوعة تعتصر قلبي.
فإلى متى ستظل قصة عائلتي وغيرها تتكرر مشاهدها في الحياة…؟

غادرتنا أرواحهم الطاهرة فكانت النهاية مؤلمة ختمها (جمل) أظلّ خارطة العودة فأفجع القلوب وأزهقها على الطريق.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights