هوس الكمال
بلقيس البوسعيدية
من منا لا يسعى إلى الكمال، وإلى خلق حياة كاملة ونجاح حقيقي لحياة عظيمة وواقع جميل، كل ما فيه أشبه بتلك الأحلام التي أخذنا نرتبها منذ نعومة أظفارنا في عقولنا، أفكارنا، ومساعينا، منذ تلك اللحظة التي أدركنا فيها ما معنى أن يكون للإنسان حلم، ما معنى أن تكون إنسانًا حالما وأن تسعى بكل ما أوتيت من قوة وعزم لتحقيق كل أمنية تمنيتها، وأن تتمرد على لحظات ضعفك، وتقهر خوفك وتزأر بوحشة دامية في وجه المستحيل ليبتعد عن دربك، وأن تمسك بعنق الزمن لترتب الأيام وتعيش اللحظات لصالحك، وأن تنسف جبال الصعاب وتسابق اليأس بقلب ممتلئ بالأمل؛ لتبلغ أهدافك وتحقق طموحاتك، وتحقق غايتك المرموقة في الكمال وأنت على يقين تام بأنها وحدها التي يمكن أن تخلق منك إنسانًا كاملاً، في شعور أنك أفضل وأكثر نجاحًا، إنجازًا، وعطاءً، وحدها تلك الأحلام التي رسمتها على خارطة ذهنك هي التي يمكن لها أن تسد شعورك بالنقص، وأن تخلق منك إنسانًا مستقلًا مع ذاته، وأن تصنع لك حياة مكتملة بك وحدك دون غيرك، حياة كاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حياة تردم فيك ثغرات إحساسك بالضعف والوهن لتتوقف عن البحث عن كمالك في إنصاف الأشياء، أنصاف الطرقات، أنصاف المشاعر، أنصاف الاهتمام، أنصاف الأصدقاء، حياة تجعلك عزيزًا مؤمنًا واثقًا بك وحدك فقط من بعد خالقك، حياة تجد نفسك فيها دون أن تضيع منك وأنت تفتش عن ذاتك الضائعة ما بين أحلامك وبين واقع لا يشبه شيء منك، ولا يعطيك شعورًا بالكمال، حياة تجعلك تفلت كفوف الآخرين وتنزوي مع نفسك بشعور أنك غني عن حاجة الآخر لك، غني عن مواساة العالمين وعن مساندتهم لك في عز ضعفك وانكسارك، تكتفي بك وحدك في كل حالاتك، تقاوم الحياة وظروفها دون أن تسمح لأحد بأن يمد لك يد العون ويقف إلى جانبك، تلجم صوت صراخك وتجمع شهقاتك في جيوب صمتك كلما صار الضعف يقتات من أضلاع صلابتك، تستمر في التقدم في طريقك بشموخ وعزم رغم عدد خطواتك الهاربة منك، تجاهد لتستر نفسك بنفسك، لتخفي ضعفك ونقصك، وحاجتك لمن يكون لك عونًا ويسير إلى جانبك، تسعى جاهدًا لتبدو في صورة صلبة ومثالية للشخص المثالي النبيل، الذي يحظى بمحبة الآخرين؛ ليصير قصة تستحق أن تروى على ألسنة المادحين.
قد ينسلخ مفهوم البحث عن الكمال إلى هوس، فيزداد إصرار الإنسان إلى بلوغ نقطة الكمال في كل شيء، في كل جانب من جوانب الحياة، تجده قد اشتد حماسه، واشتعلت فيه رغبة الكمال بحماس جمرة ليستلذ بنشوة التمام والإحساس بالكمال والرضا والقبول، يعمى قلبه وفكره عن رؤية نواقص الحياة والأشخاص، يحصر نظرته للحياة في رؤية الجانب الكامل والمشرق منها، ينظر لحقيقتها المدهشة والباهرة متجاهلًا حقيقة أن بها شيئًا من النقص، متجاهلًا النقص الملتصق في كل ما هو كامن حوله حتى وفي نفسه، يسعى بكل ما أوتي من عزم لتحقيق الكمال برغبة جامحة، يسير بين الطرقات بثقة عمياء، مبتل بالإصرار، يتحول من إنسان مطمئن إلى إنسان مهزوز وخائف، يكبر فيه الخوف من أن يفشل فتهتز صورة الإنسان الكامل المثالي في نظر من هم حوله، فالفشل عند من يلهثون وراء الكمال ليس مجرد عيب اقترفوه في حق أنفسهم، بل وأنهم يشعرون بأنهم هم العيب بذاته، تجدهم دائمًا ما يكلفون أنفسهم ليخرجوا في صورة نظيفة، بيضاء بلا عيوب أو أخطاء، في صورة تليق وتحظى بإعجاب وقبول الآخرين لها، فهم دائمًا ما يسعون ويبذلون قصارى جهدهم لكسب قبول الآخر مهما كلفهم الأمر، لا يهنأ لهم وجود حتى يشعروا بمدى إعجاب ورضا وقبول الآخرين لهم، فلا مجال للخطأ والزلات، فهم يحتقرون أنفسهم حين يجدون بأنهم قد أخفقوا في تحقيق أمر ما، لا خيار لهم في عيش الحياة إلا بأن يكونوا في صورة كاملة أو أن يكونوا لا شيء، لا يعترفون بالوسط الرمادي من الحياة الممزوج بشيء من النور والظلام، إما أن يعيشوا في الظلام أو أن يكونوا في النور، فلا فرصة لهم لأن يفشلون فيها أو أن يجربوا الأشياء قبل الخوض في غمارها، لا مجال لديهم للتجربة ولا للخطأ، فكل خطأ يقترفونه هو بمثابة وصمة عار تظل محفورة في عمق نفوسهم، وتجر بهم إلى الشعور بالدونية وعدم الكفاءة مهما كانت إنجازاتهم، بل وتنعدم فرصهم للاحتفاء بإنجازاتهم البسيطة أو الاستمتاع برحلة الحياة الممتعة.
ما أن يفشل الإنسان في بلوغ غايته حتى تجده قد تبدل من إنسان محب للحياة، إلى إنسان كاره لكل شيء حتى ولنفسه، يعود من بعد عناء السفر مُكبًا على قلبه، يغزوه الحزن شيئًا فشيئًا ، تتكدس جثث الأحلام في صدره فيظل يقيم الحداد والعزاء، يبكي متكفن بالبؤس لأيام عديدة للحد الذي يخلع عن قلبه الأمل، ويلتحف اليأس غير مبال بتساقط الزمن وتعاقب الأيام.
ما أن تكشف له الحياة عن عورة نواقصه حتى تجد بأن قلبه قد اختل توازنه، تتضارب فيه المشاعر، موج غاضب؛ فيظل يلطم موج أحاسيسه الواهنة كمن يبحر في محيط واسع بلا مجداف أو شراع، يهرب من عيش الواقع وعن تصديق الحقيقة التي صفعته حين أدرك أنه كلما ظن بأنه قد بلغ غايته في تحقيق الكمال وجد النقص ملتصقًا به ولا يفارقه مهما بذل من جهد في الهروب عنه، حين يدرك حقيقة نواقصه ينزوي تحت ظلال الظلام الوارفة خوفًا من أن تكشف عيوبه أمام الملأ؛ فيصبح في عيون الآخرين شخص ناقص، تقل إنجازاته ويزداد إخفاقه في تحقيق المزيد من النجاحات والعلاقات التي قد تزيد من إحساسه بمدى نقصه، يترك الحياة ويحرم نفسه من لذة التمتع بها ظنًا منه بأنه الإنسان الوحيد الذي يملك عيوبًا ونواقص. لا بد من إدراك حقيقة أن لا شيء كامل في الحياة، لا بد من تقبل عيوبنا ونواقصنا التي شكلتنا وخلقت لنا سمات نمتاز بها عن بعضنا، فلا يوجد منا من هو كامل العقل، الفكر، والروح، فلكل إنسان جانب ضائع فيه ما بين الظل والنور، جانب ناقص يميزه عن غيره ويصقل حقيقته كما هي دون تزوير أو تصنع.
تقبل حقيقة أن الحياة ناقصة وستظل ناقصة مهما سعينا-ليل نهار- لترق لنقصها وجعلها في صورة كاملة. اخرج من دائرة شعورك بالعار والنقص، حرر نفسك من شرنقة الظلام وتقبل ندوبك وعيوبك ونواقصك، تقبل هزائمك وخسائرك بروح راضية ونفس مطمئنة، احتضن الحياة واضحك لها ملء صدرك، كن أنت هو أنت دون أن تخلق لك ملامح لا تشابه وصف حقيقتك، دون أن تتكلف أو أن تتصنع لتكسب ود قلوب من هم حولك، كن أنت هو أنت وعش الحياة بنواقصها، وحب الناس بنواقصهم وتقبلهم بعيوبهم، واسمح لهم بأن يتقبلوك بما أنت عليه. كن على حقيقتك مهما ازداد إحساسك بالنقص والعجز وشعرت بأن كل الأشياء ناقصة بين يديك.
تذكر بأنك لست الوحيد من يملك نواقص وعيوب، فلا شيء كامل في الحياة والكمال لله وحده.