سر الشاطئ والمساء
شريفة بنت راشد القطيطية
كانت الطفولة أجمل.. فلا شيء يحجبك عن رؤية البحر حتى من نافذة البيت المطلة عليه.. لا شيء أجمل من الليالي البدرية في روعة وهدوء وراحة بال.. لا يستوطن فكرك إلا لقاء الأصدقاء غدًا علي شاطيء البحر لبدء مراسم الشوق وتعطيل كل ما هو مكدر للخاطر .. هذه الليلة بالذات محفورة في عقلي.. لم يكن للكهرباء نفس طويل لتستمر حتى الصباح.. وجميع أهل القرية يخرجون للنوم خارج منازلهم في رملة ناعمة ونظيفة، وكنا نصنع من التراب وسائد للنوم، ونلتحف السماء، ونراقب النجوم، ونسترق السمع لكل قصص الكبار لنكن مثلهم في يوم من الأيام.
كانت جدتي تقص لنا حكايات جميلة ونصنع على ضوء القنديل ورودًا من أطراف أصابعنا، وكان القمر شاهدًا على لوحاتنا الفنية.. الجميل في الأمر أننا ننهك من سباق الحلم بين سطور عقولنا الصغيرة ونستسلم للنوم بكل حلاوته.
الفجر يأتي كملاك حارس ويطبع لكل منا قبلته الخاصة ويوقظنا بكل سرور.. وروائح الخبز تنبع من كل بيت وتدخل بلطافة لأنوفنا وتشل حماس الجائعين، ونتسابق للدخول للبيت قبل أن تشرق الشمس وتحرق وجوه النائمين.. رائحة الخبز تلك لن تترك لك مجالًا لتنام مرة أخرى.. لديها طابع اللذة الذي يأمرك بالإنصياع للتجمع حول موقد أمي، ونأخذ نصيبًا منه قبل إفطار الكبار..
يمر اليوم بسلام وألفة، ويعود المساء ويطلع البدر كيقطينة مستديرة زاهية اللون.. نتراقص عند الشاطيء ولا نعود للبيت رغم صراخ أمي: “عودوا إلى البيت بسرعة”..
القمر ساحر يأخذ الأطفال لمدارك العمق ويبهرهم ويحملهم بشوقه إلى بساط العشاء لنأكل ونعود لحوار الكهرباء والنوم فوق الرمل.. وننام بكل متعة على صوت جدتي وهي تقص لنا الأساطير.. وهذه الليلة يفزع الجميع على صراخ ثعلب جائع يبحث بين النائمين عن مأمن ولكنه أخذ نصيبًا وافرًا بضربة واحدة فقط من يد أبي الذي أحيا الصمت ونثر الصخب بين الجميع.. ننظر للثعلب المسكين برأفة وهو مقيد القوائم ومرحل للنهاية.. الغلبة ليست لك دائمًا لتعد مقيدًا لمزارع النخيل التي أتيت منها. يعود الفجر بهمزاته ولمزاته ورائحة الخبز وصوت البحر وصوت الٱذان.. لقد اتفقنا منذ الليل أن نزور مزارع النخيل صباحًا.. ربما نجد ما نطمع إليه من ثمار الأمبا الأخضر، وكان الملح والفلفل الأحمر سيد الموقف.. لدينا ما نفعله اليوم من تكنيك برئاستي ودهائي.. ثم نعود للبحر لدينا حصة هناك من كرم الصيادين ونحمل السمك لحفلة شواء في نفس المكان؛ ليتسابق الدخان ويملأ تلك المزارع ورائحة الشواء لديها ما يكفي من معزوفات ولحن.. لا تسألونا اليوم عن الغداء.. فلا نريد إفشاء السر، ونتسابق للبحر في أجمل مشهد ونحن نخفي جرائم الشواء ونسبح كالضفادع المرحة تحت الشمس.. لا شيء يمسك الطفولة عن العبث بالوقت.. ونلعب في المساء وننتظر البدر..
اليوم سيتأخر قليلًا عن موعده، ولكننا ننتظره بلا ملل، ونعود بصرخة تهز الشاطيء “عودوا إلى البيت بسرعة”.. وها قد تكرر المشهد وأعددنا النوم فوق الرمل حتى تعود الكهرباء من جديد.. وأغط في أجمل لقطة للنوم.
ما زالت تعاودني حتى اليوم أن أنام دون أن أشعر.. قد تنطفيء لدي الحواس وأشتم رائحة الموت وأحلم بصمت.. هذه الليلة عادت الكهرباء من دون موعد، وأحب أبي أن يوقظنا لننام بالداخل حتى لا يتكرر مشهد الثعلب.. وإنشغل بإخوتي الصغار بعد أن أيقظني من نومي الجميل.. ولكن كانت إستجابة سيئة فتوجهت ناحية البحر ونسيت اتجاه البيت.. ما زلت أمشي بلا حواس ودخلت في الموج وتقدمت أكثر وأبي يلتفت ليرى مشهد الغرق ويطير بسرعته ويمسك بي ولم أشعر إلا بصفعة أعادت الروح للجسد.. كيف وصلت هنا.. فقط أردت الموت قبل بزوغ الفجر. لم أشعر بأي حرج.. لم أكن بوعي تام هذه الليلة.. شكرًا أبي أيقظت الحواس الخمس لدي وكاد البحر أن يلتهمني كقربان للكهرباء التي تعبث بالمساء كل يوم.