العنصرية قوانين وحلول
عصام بن راشد المغيزوي
منذ أن أشرقت شمس الإسلام على عالمنا اختفت ظلال الفروقات، وتساوت معه حقوق كل البشر، ولم يعد هناك ما يفرق بين شخص وآخر سوى التقوى. فرسالة الإسلام كانت واضحة منذ نشأتها دقيقة في تعبيرها، غير قابلة للتأويل في تعليماتها، تضع هدم أصنام الكراهية والطائفية المقيتة والعنصرية كأحد أسمى أهدافها، وما من دليل أبلغ من ذلك إلا كما ورد في الحديث الشريف: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناسُ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ). رواة الترمذي من خطبة الوداع(1)،
فالإيمان بتساوي أصل النشأة يجب أن يخلق مجتمعات لا يشعر فيها الأفراد بالتفاوت أو الطبقية، بل يعملون كالجسد الواحد لبناء مجتمعاتهم.
إن داء العنصرية إذا ما أصاب مجتمعًا فإنه يشل حركة ذلك المجتمع، ويرجعه خطوات للوراء ليدب فيه الركود، ويصبح في نظر المجتمعات المتقدمة من المجتمعات التي لا قيمة لها. لقد سُطرت كلمات الإسلام بعيدًا عن أوراق التمييز الظالم وأقلام العنصرية السوداء، فتم صون الحقوق ورسم حدود الكرامة.
لا يمكن للنفس البشرية السليمة بأن تقبل بوجود بذرة العنصرية بين ورودها، فالعنصرية ليست فطرة، ولكن هناك بعض الأشخاص الذين تمتلئ نفوسهم بالحقد والكراهية، ويسعون بشتى الطرق لزرعها في حقول غيرهم. فالطفل يولد على الفطرة السليمة النقية، لا يشوب قلبه عنصرية أو تمييز أو كراهية. فإذا لم تكن هنالك بيئة تسعى لتصدير أفكار العنصرية له فسيعيش بعيدًا عن هذه السلوكيات والأفكار المشوهة.
تنبع هذه السلوكيات الدخيلة عادة من تقصير تربية الأبوين لأبنائهم، أو عدم وجود بيئة مدرسية سليمة، أو التطبع بأطباع الأصدقاء السيئة، وقد يضاف إلى ذلك عدم وجود رقابة كافية على البيئة الإعلامية، فالعنصرية من أكثر آفات العصر الحديث فتكًا، ومن أبرز مسببات النزاعات والحروب الطائفية والنعرات المذهبية.
إن التفاخر بخرافات النسب والإيمان بضرورة تقسيم أفراد المجتمع بناء على مذاهبهم أو قبائلهم لجهل مدقع، فالقبيلة التي تفاخر بها لم تبذل فيها أي جهد لتحصل عليها، ولكن هناك مجموعة من الظروف السياسية والاقتصادية والنزاعات هي التي ساهمت في حصولك على تلك القبيلة. إن خطورة هذا الأمر يتعدى التفاخر بالأنساب، بل قد تصل لمرحلة تصنيف البشر لطبقات مختلفة؛ حيث يكون الهدف الأسمى لوجود الطبقية في المجتمعات هو إعلاء شأن الطبقات العليا واحتقار الطبقات الدنيا، فيتم إطلاق بعض العبارات والألقاب على الطبقة الثانية دون أي مبرر، ويتم تمجيد دور الطبقة الأولى مما يجعل الطبقة الأولى تشعر بالتميز والزهو، ووجود الطبقية سيؤدي إلى تعطيل عجلة التنمية في المجتمع كون أن الطبقات التي تشعر بالتشويه والدونية في المجتمع ستشعر بعدم قدرتها على إحداث أي تغيير في المجتمع، مما سيقيدها عن الانطلاق في ميادين العلم والمعرفة، وفي الجانب الآخر سيعطي شعورًا مخادعًا لتلك الفئات التي تشعر بالعلو بأنهم أتموا مهامهم المنوطة بهم؛ وذلك بسبب تمجيد المجتمع لهم طوال الوقت. ثم ماذا قد ننتظر بعد كل هذا؟ سوى مجتمع عنصري، تنتشر فيه معايير التمييز المجحفة وتكون فيه التعيينات في المناصب بناءً على تلك المعايير وتبتعد فيه الكفاءات عن المناصب الكبرى.
ووجود العنصرية في مجتمع ما قد يحرم أصحاب الكفاءات العلمية والعملية من تقلد المناصب التي يستحقونها لكونهم ينتمون إلى طبقة ينظر لها بالدونية، فتخسر المجتمعات أشخاصًا كانوا قادرين على إحداث تحول جذري في نهضتها، وتصبح قيادة المجتمعات بيد من لا يملكون الكفاءة لقيادتها، الأمر الذي يقود تلك المجتمعات إلى حالة من الانغلاق لا نهاية لها.
ومن أكثر مظاهر العنصرية شيوعًا في وقتنا الحاضر هو ذلك المظهر الذي يمنع فيه الزواج بسبب القبلية والطبقية، وهي قضية لا يتطرق لها الإعلام كثيرًا، فقلما تتحدث وسائل الإعلام عن هذه القضية، ونادرًا ما نجد بحثا علميا يبحث عن جذور هذه المشكلة والسبل لاقتلاعها. فرغم اتباعنا لرسالة الإسلام التي تدعونا للعدالة ونبذ العصبية والتمييز وما أوضح من ذلك ما قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مما رواه الترمذي: (1084) ، وابن ماجة: (1967) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي(2).
إنني هنا لست بصدد ذم أولئك الذين يسعون للحفاظ على حسبهم ونسبهم؛ فهذا الأمر من المحمودات والقيم التي يجب أن نتمسك بها، ولكن العنصرية تكمن في جعل هذا الأمر ميزانا للتفاضل أو معيارا للتفريق بين القبائل، فالنسب شيء لا يكتسب بجهد، ولكنه أمر يمنح بأمر من الله سبحانه وتعالى، فكيف يمكن أن تسول للمرء نفسه بأن يفاخر بأمر لم يكن له سبب في حدوثه؟ وكيف له أن ينتقد الآخرين على أمر لم يكن لهم يد في حدوثه؟
وهنا لا بد أن أشيد بالقوانين العمانية التي سعت لاجتثاث جذور العنصرية، ومنع تسرب الطبقية لمجتمع عرف منذ قديم الأزل بسعيه الدائم لحفظ كرامة الإنسان، وتوفير الفرص المتساوية لجميع أفراده؛ حيث تنص المادة الخامسة عشرة من النظام الأساسي للدولة على أن ” العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع، تكفلها الدولة” وأن ” التعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، وتعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي إلى الفرقة، أو الفتنة، أو المساس بالوحدة الوطنية”.(3) كما يذكر أن سلطنة عمان قامت في عام 2002م وبموجب المرسوم السلطاني 2002/87 بالانضمام إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع صور التمييز العنصري. لردع كل من تسول له نفسه أن يروج للتمييز العنصري في المجتمع العماني؛ فقد عمدت الحكومة العمانية لسن مجموعة من العقوبات الجزائية لدرء هذه الآفة، ومنها ما نصت عليه المادة 130 من قانون الجزاء العماني:” يعاقب بالسجن المؤقت مدة لا تزيد على عشرة سنوات كل من روج ما يثير النعرات الدينية أو المذهبية أو حرض عليها أو أثار شعور الكراهية أو البغضاء بين سكان البلاد”.(4)
لقد سعت حكومة السلطنة لإيجاد مناخ يخلو من دخان الطبقية في شتى مجالات الحياة كالمجالات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والتعليمية؛ وذلك بسن مجموعة من القوانين وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات.
لبناء مجتمع متحاب قائم على العدل والمساواة ومبتعد عن التفرقة يستوجب تكاتف جهود الأفراد والسلطة معًا للحد من انتشار هذه الآفة، فعلى الحكومة أن تضيق دائرة الخلافات بين فصائل المجتمع المختلفة، وأن تطبق مبدأ المساواة بين الأفراد، كما ينبغي على الإعلام أن يبرز خطورة هذه المشكلة على المجتمع، كما ينبغي تفعيل دور منابر المساجد لتحذير الآخرين من هذه المعضلة، كما يتعين على المدارس والجامعات تحذير مرتاديها من وجود هذه الظاهرة وعليها تغليظ العقوبة على من يفتعلها.
إن مناهضة العنصرية واجب إنساني قبل أن تكون واجبًا دينيًا، فالنظر إلى أخلاق الإنسان يجب أن يسبق النظر إلى قبيلته، أو مكان سكنه، والنظر إلى تفكيره يجب أن يسبق النظر إلى لونه أو دينه أو مذهبه، فمجتمعنا يجب أن يؤمن بعبارة “أنا وأنت معًا” وأن يبتعد عن مبدأ ” أنا أو أنت”، فقارب التطور الذي نسعى للإبحار به يتسع للجميع، على اختلاف ألواننا وقبائلنا وأفكارنا ومذاهبنا، فالعنصرية هي تعطيل لإعمال العقول ولا بد من أخذ جميع التدابير لتحجيم هذه الظاهرة المقيتة.
____________________
(1) – (الألباني في السلسلة الصحيحة 3700 بسندٍ)
(2) رواه الترمذي في النكاح.
(3) النظام الأساسي للدولة.
(4) قانون الجزاء العماني.