من ذاكرتي الوطنية .. أزمة جائحة كورونا (كوفيد١٩)، وآلية التعامل معها. (الجزء الثاني)
حمود الحارثي
إلا أنه ما لبث أن تأزم الوضع من جديد بسبب انتشار الجائحة مجتمعيًا، ما لم يكن معه إمكانية إلقاء اللوم على مواطن أو مقيم لم يلتزم بالتعليمات مع ما بذل من جهود حثيثة من توعوية بالإجراءات الإحترازية، أو تثقيفية صحية، في حين كان الجميع بين مصدق ومشكك في صحة الجائحة، وتداعيات انتشارها، مع ما صاحبه من حالات ترقيد للمصابين في المستشفيات، والتي فقدنا على إثرها أحبة لنا انتقلوا إلى جوار ربهم.
لننتقل لمرحلة تتطلب تكاتف جميع الجهود المؤسسية، والمجتمعية. حيث تم تفعيل قطاع الإستجابة الطبية، وقطاع الإغاثة والإيواء على مستوى المحافظات، وفتح المجال أمام تشكيل الفرق التطوعية مجتمعية كانت، أو فرق رياضية، والذي كان لدورها الرائد بالغ الأثر في المساهمة في الحد من انتشار هذا الفيروس، تمهيدًا لمرحلة جديدة ووضع خطة أخرى للتعامل مع الجائحة، تطلبتها ظروف المرحلة، والإنتقال من مرحلة الحجر المنزلي، الذي تأثر بالعادات المجتمعية، أهمها عدم الإلتزام بشروط وإجراءات الحجر المنزلي مع ما بذلته فرق التقصي الوبائي في كل محافظة، وولاية وقرية، لتبدأ مرحلة الحجر المؤسسي، الذي شابه بعض القصور في عدم إلتزام بعض المحجورين، وسوء استغلال بعضهم للخدمات والمزايا التي هُيِّئت لاستقبالهم، مع بدء إستشعار ظهور آثار أزمة إقتصادية عالمية قادمة بسبب طول مدة الجائحة، للعودة مرة أخرى للحجر المنزلي مع تفعيل غرف العمليات بالمحافظات، وخطوط الهواتف الساخنة لإستقبال البلاغات، واستخدام تقنية سوار التتبع.
إلا أنه مع الانتشار السريع والواسع لعدوى الفيروس وتصنيفه جائحة وبائية عالمية، قد أصبح واقعاً يصعب السيطرة عليه، وللتصدي له يحتم وضع خطة جديدة تهدف لتخفيف وطأته، وآلية مرنة للتعامل معه، لتبقى في مقدمة أولوياتها المحافظة على حياة الإنسان كما ذكرنا في مقدمة المقال، فكانت بكل تأكيد الأساس الذي تبنى عليه أية إستراتيجية وطنية مهما كلف الأمر.
هنا صدرت الأوامر، والتوجيهات السامية الكريمة من لدن جلالة السلطان، القائد الأعلى عاهل البلاد المفدى، قاضية بتشكيل وتفعيل عمل اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع انتشار فيروس كورونا (كوفيد١٩) ليتم الإنتقال لمرحلة جديدة في مسيرة التصدي لهذا الفيروس. حيث شكلت اللجنة تحت أعين جلالته – أعزه الله -، وبرئاسة معالي السيد وزير الداخلية الموقر، وعضوية معالي الدكتور وزير الصحة الموقر وعدد من أصحاب المعالي، والقادة العسكريين، وأصحاب السعادة الوكلاء، ومن إرتأت اللجنة ضم عضويته من السلكين المدني والعسكري، والذي يعتبر أرفع تشكيل وطني في إدارة أزمة صحية، منبأ بأن الأمر جلل، استحق معه كل هذا المستوى الرفيع من التشكيل، وبأن الأزمة قد أصبحت وطنية، وأمنية، وإقتصادية، وليست صحية فقط، كما أن لها تداعيات على المستوى المجتمعي، والتعليم، والإقتصاد الوطني.
فكانت المسؤولية والأمانة عظيمة على عاتق اللجنة، مما تطلب معها تواجد المؤسسة الدينية، وإن كانت غير غائبة أو مغيبة منذ إندلاع الجائحة، ولكن سمة التدرج في إتخاذ القرارات هي ما تميزت بها إدارة الأزمة.
لتأتي بعدها القرارات أكثر جرئة، وصرامة من ذي قبل، مع أولوية المحافظة على حياة الإنسان العماني وتأمين الحياة الكريمة له مع كل الآثار التي صاحبت وترتبت على إمتداد أمد الأزمة.
فكانت القرارات صارمة في بعض الأحيان، ولكنها لم تبنى من فراغ بقدر ما بنيت على معطيات وتقارير ودراسات وتحليل للوضع الوبائي، تمثلت في عدد من الإجراءات، كغلق المحافظات وتفعيل نقاط السيطرة والتحكم، والإغلاق الجزئي والكلي للأنشطة التجارية، وعدد من المجالات الأخرى، ومنع التجمعات بجميع أشكالها مع مراعاة الجوانب الإنسانية، والإجتماعية في معظم الأحيان. كما أن هذه القرارات قد تدرجت حسب معطيات الوضع الوبائي الذي يظهر من خلال الأرقام والإحصائيات التي لا تكاد تمر ساعة على مدى الأزمة إلا كانت على طاولة النقاش،والتحليل، والمتابعة، والدراسة.
نعم هناك من تأثر بالإجراءات التي صاحبها الكثير من السخط المجتمعي، وأصحاب المؤسسات الكبيرة، والمتوسطة والصغيرة في القطاع الخاص، ولكن بقت المصلحة الوطنية العليا وحياة الإنسان العماني فوق كل إعتبار، حيث اتسمت قرارات اللجنة العليا بأقصى درجات المهنية، ولم تلتفت لأي نقد بقدر ما اهتمت إلى تحليل ذلك النقد، والتعاطي معه بكل إيجابية، والإستفادة منه في وضع الخطط، ووضع الحلول الوسطية المناسبة لتخفيف آثار الأزمة.
كما كان للمؤسسات الإعلامية والعاملين في هذا المجال بوزارة الصحة الموقرة الدور الرائد والبارز في إيصال الرسالة التوعوية، و التثقيفية الصحية، والمعلومة الصحيحة الموثوقة الصادقة وبكل شفافية لأفراد المجتمع، وحثهم على أهمية الالتزام بالإجراءات الاحترازية مع سعي الحكومة الرشيدة الحثيث لتوفير اللقاح لجميع المواطنين والمقيمين على أرض سلطنة عمان في أسرع وقت ممكن، وبدون تمييز.
إلا أن المهنية العالية التي صاحبة قرار التعاقد مع الشركات المنتجة للقاحات، قد وضعت نصب عينيها السعي للحصول على أفضل أنواع اللقاحات، وأمانها في ظل ندرة المعروض عالميا، مع شح المعلومات الطبية حول جودتها ومدى فاعليتها. حيث بدأت معها مرحلة الدبلوماسية العمانية مسخرة كافة إمكانيات لتوفير الكمية المطلوبة، وتأمين سرعة وصولها، في خضم ما تم رصده لبدايات ظهور نشاط للسوق السوداء للقاحات عالمياً، إلا أنها التزمت بتوفير أجود أنواعها وأنجعها، ولم تتهافت على توفير أي لقاح غير آمن من أجل رفع أرقام الإحصائيات كما فعلت بعض الدول الأخرى.
بدأت بعدها بشائر الخير بتوفيق من الله، وجهود المخلصين بوصول أول دفعة من اللقاح لأرض سلطنة عمان العزيزة، توالت بعدها حملات التطعيم ضد هذا الفيروس، مع وضع أولويات الفئات المستهدفة حسب مقتضيات كل مرحلة، التي استمرت حتى غطت جميع أبناء الوطن والمقيمين على أرضه الطيبة الكريمة عبر مراحل متتالية، مشرعة مراكز التطعيم أبوابها لاستقبالهم في جميع المحافظات والولايات، في حين تراجعت العديد من الدول عن نهجها في التعاطي مع الجائحة، والعودة إلى المسار الذي انتهجته سلطنة عمان الحبيبة في آلية التعامل معها ومع أنواع وجودة اللقاحات التي قامت بتوفيرها لمواطنيها والمقيمين على أرضها لتبقى عُمان منارة تضيء الطريق للجميع.
انتقلنا بعدها ولله الحمد والشكر لمرحلة تخفيف قيود الإجراءات الاحترازية التي لم تكن يومًا إلا من أجلنا، وتعود الحياة تدريجيًا إلى طبيعتها، فنعمنا في شهر رمضان المبارك وعيد الفطر السعيد بسعادة لقاء الأهل والأحباب، وهنا بعد فضل الله وتوفيقه تتجلى الحكمة في فن إدارة الأزمات في أجمل صورها.
وإنه لمن حسن الطالع أن يتزامن كتابة هذا المقال مع التوجيهات السامية الكريمة لعاهل البلاد المفدى خلال ترأسه لإجتماع مجلس الوزراء القاضية بإنهاء عمل اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع انتشار فيروس كورونا (كوفيد١٩) في وطننا الحبيب سلطنة عمان.
وإني لأسأل الله أن أكون قد وفقت في نقل ما اطلعت عليه من وقائع وأحداث وآلية في التعامل مع هذه الجائحة بكل أمانة ومهنية أدبية بما يمليه الواجب الوطني وحق القلم، وأنا أتصدر لكتابة موضوع هذا المقال، وهناك بلا شك جهود أخرى لم أحظ بها علمًا وتستحق كل الشكر والتقدير والثناء.
والله ولي التوفيق، وهو المستعان